خلال الستينات وبداية الثمانينات من القرن الماضي، عاشت تونس مرحلة الريع النفطي من خلال ارتفاع الإنتاج بالحقول الرئيسية مثل البرمة والدولاب والفرانيق وخليج قابس والسواسي وخليج الحمامات ومنطقة بلي وصفاقس وسواحل قرقنة . ولكن أواسط الثمانينات من القرن الماضي بدأت المخزونات الاستراتيجية تنضب وبدأنا نتحسس انخراما في الميزان الطاقي الوطني.
لمعالجة هذا الانخرام الطاقي الوطني، اتجهت الحكومات المتعاقبة الى التقليص من دعم المحروقات و الترفيع التدريجي في أسعارها و خاصة المحروقات المخصصة للنقل البري.
وتواصل العجز الطاقي المرتبط أساسا بتراجع الإنتاج الوطني وارتفاع الاستهلاك في القطاعات الحيوية مثل السكن والخدمات والصناعة، إضافة إلى ارتفاع أسعار النفط في الأسواق العالمية وخاصة خلال السبع سنوات الأخيرة والتي وصل فيها العجز الطاقي إلى مستويات قياسية.
كما تميزت الفترة الأخيرة بتراجع الاستكشاف والبحث والتنقيب، في علاقة بغموض شبه كلي للمعطيات و المعلومات و الرخص وطرق إسدائها للشركات الأجنبية. وهو ما جعل الكل يعتبر مجال الطاقة في تونس أكثر القطاعات فسادا. وهو ما جعل الحكومة نفسها تلغي وزارة الطاقة بكاملها و تضع كاتب الدولة للطاقة في السجن والشعب لا يعلم أي شيء عن الأسباب الحقيقية لكل هذه القرارات الغريبة و الغامضة.
أمام هذه الأوضاع، تعمقت معضلة الطاقة في تونس و أسدلت بظلالها على المشركة التونسية للكهرباء و الغاز و التي تعاني اليوم من عجز مالي كبير و مديونية تصل وفق أرقام 2018 إلى حدود 5.9 مليار دينار. وهذه الوضعية ليست لكون الستاغ شركة عمومية بل لان القرارات التي تم اتخاذها منذ 2013 من طرف حكومة الترويكا و القاضية بدعوة الستاغ للخروج إلى السوق العالمية للتزود بحاجياتها من الغاز الطبيعي الضروري لإنتاج الكهرباء. رغم انه و منذ 1974 كلفت الشركة التونسية للأنشطة البترولية بهذه المهمة باعتبارها تمثل الدولة في النتاج والبيع والشراء للمواد النفطية بشكل كلي على المستوى الوطني .
غياب الرؤية والبرنامج الوطني الاستراتيجي في مجال الطاقة في تونس خاصة خلال السنوات الأخيرة، وتعمق أوضاع المؤسسات العمومية الناشطة في المجال، جعل فاتورة الطاقة ثقيلة على دافعي الضرائب وأربك بالتالي المؤسسات الخدماتية العمومية العاملة في مجال إنتاج و توزيع الطاقة بكل أصنافها.
أمام ضغط المؤسسات المقرضة وخاصة صندوق النقد الدولي الداعي إلى تحرير سعر المحروقات والطاقة بشكل عام، وفي ظل غياب استراتيجية وطنية للطاقة. وانتشار الشعرات الرنانة حول الطاقات البديلة والطاقة الشمسية وغيرها من الشعارات التي تصم أذان الشعب يوميا. تم إقرار الزيادة في أسعار الكهرباء بداية من شهر جويلية للمساكن. وتقدر هذه الزيادات ما بين 6 الى 12 بالمائة وفق كمية الاستهلاك.
ولكن البلاغ الرسمي للشركة التونسية للكهرباء والغاز قد وضح أن الزيادة المبرمجة لا تشمل العائلات الفقيرة والتي تستهلك كمية ضعيفة من الكهرباء، بل يمكن أن يشملها تخفيض في الأسعار. وتقدر مصالح الستاغ عدد العائلات التي ستنتفه بهذا الإجراء بحوالي مليون عائلة.
لكن الغموض يكتنف الاستهلاك العادي للعائلات، التي يمكن أن تتجاوز سقف الاستهلاك المحدد لها في فصل الصيف و خاصة خلال هذه الفترة من الصيف أين تصل درجات الحرارة إلى 47 و48 درجة في مناطق الوسط والجنوب وكذلك العاصمة. وهو ما يجعلها معنية ضرورة بالترفيع في أسعار الكهرباء.
أما بالنسبة إلى العائلات التي تستهلك كميات كبيرة من الطاقة، والتي يمكن تصنيفها بأغنياء هذه البلاد والمتمعشين من السلطة وسماسرة السياسة الجدد و مهربي الاقتصاد والسياسة الذين انتشروا كالفقاقيع في البلاد، فان الزيادة يمكن أن تصل إلى حدود 12 بالمائة في فواتير الاستهلاك.
ولئن كان هذا الإجراء جيدا ويسمح للستاغ بعدم دعم هذا الصنف من المستهلكين، إلا أن أوضاع الستاغ لا يمكن إصلاحها وإعادتها إلى سالف وضعها كموروث وطني ساهم ومازال في التنمية وإيصال الكهرباء إلى أصقاع البلاد إلا ببرنامج وطني يحمي المؤسسة العمومية من السوق العالمية ويحدد لها مهامها في الإنتاج والتنقل والتوزيع للكهرباء فقط وتحميل المؤسسات العمومية الأخرى فيس الميدان توفير الغاز للستاغ مثلما كان سابقا.
كما انه وجب التنبيه إلى أن هذه المحاولات المتسترة بالعائلات المعوزة والفقيرة، على المدى المتوسط الى التحرير الفعلي للكهرباء وبيعه بأسعاره الحقيقية للمواطنين بعدما يتعود جزء منهم على الزيادات المتتالية
للكهرباء. وهذا التمشي هو تطبيق حرفي لتعليمات صندوق النقد الدولي القاضية بتحرير أسعار الطاقة تدريجيا من خلال آليتين:
- التعديل الآلي لأسعار المحروقات والذي بدا تطبيقه بداية من سنة 2016
- الترفيع التدريجي والممنهج والموجه للكهرباء عند الاستهلاك العائلي.
- لذلك فلا نغتر بهذه السنفونية الجديدة المتعلقة بالزيادة في الأسعار للمستهلكين الكبار بل هي مرحلة لتعميم الزيادات على الكل.
حسين الرحيلي