بعد أخذ وردّ وأخبار من هنا وهناك عن إمكانية تأجيل الانتخابات العامة في تونس أمضى رئيس الدولة أمرا بدعوة الناخبين إلى الاقتراع وفق ما يضبطه الفصل 101 من القانون الانتخابي. وأصبح التونسيون بعد هذه الدعوة مطالبين بالمشاركة في هذه الانتخابات المبرمجة ليوم 6 أكتوبر 2019 بالنسبة إلى التشريعية ويوم 17 نوفمبر 219 بالنسبة إلى الدور الأول للرئاسية.
إن الأمر يطرح تساؤلات جدية حول هذه الانتخابات ومدى استجابتها- من حيث الظروف التي تجري فيها ومن حيث نتائجها المرتقبة – لانتظارات الشعب التونسي الذي ملّ الوعود الزائفة للحكومات المتعاقبة وبات في وضع اجتماعي سيّء لم يكن ينتظره خاصة بعد أن أسقط أعتى الدكتاتوريات الفاسدة. فهل أن الظروف الذاتية والحالة التي عليها أحزاب المعارضة تساعدها على المرور إلى البرلمان وإيجاد مخارج جديّة للازمة كخطوة نحو الانتقال إلى مرحلة جديدة من البناء الاقتصادي؟
الظروف التي ستجري فيها الانتخابات
إن المتابعين للشأن العام على بيّنة مما يجري في الساحة التونسية وتحديدا في مستوى الحكم من تجاذبات وحسابات ومحاولات لضمان أسبقيّة غير مشروعة للفوز في هذه الانتخابات والانفراد بالحكم. فرئيس الحكومة الهارب من نداء تونس المتشقّق بدوره أقدم على تأسيس حزب “تحيا تونس” المشكل من ثلة من المسؤولين والوزراء والولاّة والمعتمدين وموظّفي الدولة الذين يتقاضون اجورا من الخزينة العامة للدولة ليتفرّغوا للعمل السياسي على حساب وظائفهم الأساسية. هذا بالإضافة الى استعمال أجهزة الدولة ومقدّراتها وتسخيرها لفائدة هذا الحزب الذي يعيد للمشهد العام من جديد التّداخل بين الحزب والدولة الذي مجّه التونسيون لعقود وكان عنوان التسلّط والدكتاتورية.
فحزب الشاهد يتمتّع بأسبقيّة وله حضور في مؤسسات الدولة تجعل إمكانيات التأثير على الناخبين واردة جدا إن لم نقل متأكدة. وهناك تخوّفات جدية من تزوير هذه الانتخابات والتّلاعب بالنتائج لمصلحة هذا الحزب باعتبار علاقته بالإدارة من جهة وبحكم الظروف الذي نشأ وتأسس فيها من جهة اخرى.
المؤشرات الاولى عن التدخّل ومحاولات التأثير والتزوير جاءت من خلال اقدام نوّاب الاغلبية الحاكمة اشهرا قليلة قبل الموعد الانتخابي على تنقيح قانون اللّعبة في تجاوز واضح للفصل 26 من الدستور الذي يشترط فترة السنة على الأقل لإجراء أي تغيير وهو ما دفع 51 نائبا الى تقديم طعن لدى الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية القوانين.
هذا الدخول بقوة والتجاوز الصارخ للقوانين يعكسان إرادة التغوّل لدى الحكام الجدد ويثير تخوّفات جدية حول مستقبل المسار الديمقراطي المهدّد بالانقلاب عليه والعودة بتونس الى مربع الدكتاتورية. وقد أكّد مرض رئيس الدولة وما رافقه من محاولات للانقلاب على الدستور والتلاعب ببعض فصوله لضمان السيطرة على دواليب الدولة ( الشاهد رئيس مؤقت بدل محمد الناصر ومورو رئيسا للبرلمان بدلا عن محمد الناصر الذي يعاني بدوره من صعوبات صحية) هذا التهافت وهذه الارادة الجامحة للانقضاض على السلطة بأيّ شكل.
الحياة العامة باتت تعيش حالة من التعفّن والانحدار الأخلاقي غير المسبوق. والشعب التونسي هو من يدفع الثمن سواء مباشرة من خلال غلاء المعيشة والبطالة والتهميش وتردي الخدمات الاساسية او على المستوى البعيد وما ينتظر الأجيال القادمة بالنظر لارتفاع منسوب التداين الخارجي واصرار الحكم الحالي على امضاء اتفاقيّة التّبادل الحرّ الشامل والعميق مع الاتحاد الاوروبي وانعكاساتها المدمّرة على الاقتصاد المحلي والتنمية والسيادة الغذائية اضافة الى عودة ماكينة القمع التي بات اللجوء اليها من حين لآخر مفضلا.
أزمة شاملة وعميقة ومتعدّدة الأوجه
لاشك في أن الأزمة العامة التي هي أزمة اختيارات وبرامج باتت ملموسة وتنعكس مباشرة على حياة الأغلبية. مما دفع بالعديد من الشباب وعلى غير العادة الى المبادرة بالتسجيل في القائمات الانتخابية من أجل التعبير عن غضبهم ورفضهم للواقع الحالي. وقد أكّدت عمليات سبر الآراء الاخيرة أن حوالي 67 في المائة من المسجّلين مقرّون العزم على المشاركة في الانتخابات. وربما تتطوّر هذه النسبة بتفاقم البطالة وغلاء المعيشة وانسداد الآفاق امام الشباب وفي مقدمته خريجي التعليم العالي.
لكن من جهة أخرى تعيش الاحزاب الديمقراطية والتقدمية وكل التنظيمات ذات التوجّه الاجتماعي حالة من التقوقع والتراجع أحيانا. وهي لا تشكّل إلى حدّ الآن مجتمعة كتلة هامة يمكن ان تلعب دورا في تغيير موازين القوى لصالح بديل ديمقراطي اجتماعي. وحتى في حال حصول تقدّم فلن يكون كبيرا ومحدّدا في رسم مشهد الحكم.
وهناك بالموازاة ظهور غير مسبوق للحركات الشّعبوية ذات التنظيم الأفقي من نوع “عيش تونسي” تحاول استغلال الازمة وفشل أحزاب الحكم للإقناع بأنها البديل عن المنظومة القديمة وعن “بيروقراطية” الأحزاب، وهي تضخّ الأموال الطائلة من اجل مشروعها الذي لا يختلف في الجوهر عن المشروع الرسمي. وهناك أحزاب تشكّلت من رحم المنظومة القديمة وتريد العودة بقوة رافعة شعارات معاداة “الاسلام السياسي” محاولة اختزال الازمة في تواجد حركة النهضة في الحكم والحال ان هذه الاحزاب لا تختلف في مستوى خياراتها وبرامجها مع النهضة وكل الأحزاب الحاكمة
إن محدوديّة الوعي العام المرتبط بالحضور المتواضع للقوى الثوريّة والتقدميّة ستفتح المجال أمام المال السياسي الفاسد وعمليات التّأثير في الناخبين وشراء الاصوات لتفعل فعلها في الانتخابات القادمة. وأحزاب الحكم التي ستحاول الحفاظ على حضورها الحالي لضمان البقاء في السلطة ستكون المستفيد الأبرز من ذلك.كما إن اللجوء الى الحركات الشعبوية رغم افتضاح أمرها سيشكّل احد الحلول التي سينخرط فيها جزء من الناخبين الذين ذاقوا ذرعا بالمنظومة وباتوا يبحثون عن بديل وليسوا على قناعة بان الجبهة الشعبية ومثيلاتها تمثل الحل الافضل.
الأكيد ان المشهد سيتغيّر من حيث الشكل اي من زاوية المكونات التي ستؤثثه. لكن الجوهر الليبرالي المعادي للشعب والمكرّس للتبعيّة للقوى الاستعمارية والمرتهن لاملاءات صندوق النقد الدولي سيتواصل وسيشكل الأغلبية. لكن هذا التشكيل المتنوّع والمتناقض احيانا سيفتح الطريق امام ازمات جديدة سياسية واقتصادية واجتماعية أكثر سعة وحدّة وعمقا.
تونس مقبلة على تغييرات عميقة في السنوات القليلة القادمة والانتخابات تبقى مجرّد محطّة تساعد على تحديد موازين القوى الحقيقية والإعداد أيضا لهذه المرحلة. فإما أن نستغل هذه الانتخابات للتعريف ببرنامج الجبهة الشعبية ولفّ اوسع الجماهير في الجهات والاحياء والقطاعات حول المشروع الوطني الديمقراطي الاجتماعي وتنظيم الطاقات الجديدة التي سيفرزها الصراع حتى تشكّل روافد جديدة للجبهة من اجل تحقيق مهمّات الانغراس وتغيير موازين القوى والتهيؤ لكسب معركة الخلاص النهائي، وإما أن نبقى على هامش الصراع كقوة سياسية معارضة لا أكثر.
علي بعزاوي