أعلن المشير خليفة حفتر للمرة الثانية خلال هذا العام انطلاق عملية تحرير طرابلس من سطوة الميليشيات التي وفرت الدعم لحكومة فائز السراج منذ اتفاق الصخيرات في 17 ديسمبر 2015 الذي أقرّ تشكيل حكومة الوفاق لمدة عام واحد قابل للتمديد مرة واحدة. وقد ارتكز خليفة حفتر على هذا البند لإعلان نزع الشرعية عن حكومة السراج منذ 17 ديسمبر 2017 التي لم يعترف بها أصلا منذ البداية حيث لم يمنحها برلمان طبرق الثقة لكن القوى الدولية المتدخلة في ليبيا والداعمة لحكومة الوفاق بمن فيها منظمة الأمم المتحدة تعتبر “أنّ اتّفاق الصخيرات يبقى الإطار الوحيد القابل للاستمرار”. لكن قوات المشير عجزت مرة أخرى عن حسم “معركة تحرير طرابلس ” منذ الأيام الأولى ولا يعود ذلك إلى تعادل موازين القوى بين المعسكرين بقدر ما يعود إلى التدخلات الخارجية الداعمة لهذا الطرف أوذاك والكابحة له وفق ما تقتضيه مصالح هذه القوى الاقليمية والدولية.
وعلى خلاف ما ذهبت إليه أغلب التحاليل من انتقاد غياب الديبلوماسية التونسية وتذبذب تعاطيها مع الشأن الليبي فإنّ الأطراف السياسية المتحكّمة في أجهزة الدولة منذ 2011 متورطة بصفة مباشرة في الصراع الليبي – الليبي. وما ترويج الحيادية الزائفة للدولة التونسية سوى تمويه ومحاولة لإلهاء الرأي العام عن الدور الذي لعبته القوى الرجعية الممسكة بأجهزة الدولة في ليبيا بتخندقها ضمن المحور التركي – القطري الداعم لحكومة طرابلس. بل إنّ هذه القوى حوّلت تونس إلى منصّة لهذا المحور لإغراق ليبيا بالسلاح والمبادرات الديبلوماسية المتآمرة على مصير الشعب الليبي.
لا أحد من الأطراف المتصارعة في ليبيا يملك قرار الحرب والسّلم
لئن كانت بصمات القوى الرجعية الإقليمية والقوى الامبريالية واضحة منذ اندلاع الحرب الأهلية في ليبيا سنة 2011، فإنّ الجولة الثانية من معركة تحرير طرابلس التي أطلقها المشير خليفة حفتر يوم 12 ديسمبر تؤكد بما لا يدع مجالا للشك عمق الاختراق الإقليمي والدولي للمجال الليبي وعمق تبعية الأطراف الليبية المتصارعة لقوى إقليمية ودولية حولت ليبيا إلى ساحة للصراع فيما بينها وبالتالي تحويل الأطراف الليبية المتصارعة إلى مجرد مرتزقة لدى هذه الأطراف. فلم يكن تزامن انطلاق العمليات العسكرية مع الإعلان عن الاتفاق بين تركيا وحكومة طرابلس صدفة، حيث بادرت مصر بإعلان رفضها لهذا الاتفاق. بل ولوّحت باستخدام القوة العسكرية لتعطيله بوصفه يمسّ من أمنها القومي.
ومن أبرز بنود هذا الاتفاق الذي أشعل فتيل التوتر في كامل حوض البحر الأبيض المتوسط:
- ” التعاون في مختلف المجالات الأمنية والعسكرية وتوفير خدمات تدريبية وفق التزام البلدين بأهداف ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة والأخذ بعين الاعتبار مذكّرة التّفاهم المشتركة في مجال التدريب الموقّعة سنة 2012″.
- “دعم إنشاء قوة الاستجابة السريعة، التي هي من صلاحيات الأمن والجيش الليبي لنقل الخبرة والدعم التدريبي والاستشاري والتخطيطي والمعدات من الجانب التركي من خلال إنشاء مكتب مشترك في ليبيا للتعاون في هذه المجالات يشرف عليه مجموعة خبراء”.
- “تقديم الخدمات التدريبية والاستشارية المتعلقة بالتخطيط العسكري ونقل الخبرات واستخدام أنشطة التعليم والتدريب على نظم الأسلحة داخل حدود تركيا وليبيا”.
- “المشاركة في التدريب والتعليم الأمني والعسكري والتدريبات والمناورات العسكرية المشتركة وتنفيذ المناورات المشتركة في مكافحة الإرهاب والهجرة غير الشرعية وأمن الحدود البرية والجوية والبحرية والمشاركة أيضا في الصناعة الخاصة بالأمن والدفاع وتبادل المعلومات والخبرات”.
وقّع الرئيس التركي ورئيس المجلس الرئاسي لحكومة طرابلس فائز السراج يوم 27 نوفمبر 2019 مذكّرتي تفاهم تتعلق بالتعاون الأمني والعسكري وتحديد مناطق الصلاحية البحرية “بهدف حماية حقوق البلدين المنبثقة من القانون الدولي”. وقد وصف الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي حكومة الوفاق التي وقّعت على هذه الاتفاقيات بأنها “حكومة مسلوبة الإرادة” و”أسيرة الميليشيات الإرهابية” لتقوم مصر بدورها بتحريك قطعها على الرقعة الليبية المتمثلة أساسا في قوات المشير خليفة حفتر.
إنّ الحرب الأهلية الليبية تختزل مجمل الصراعات الإقليمية والدولية حول اقتسام مناطق النفوذ. فالصراع الخليجي – الخليجي بين السعودية والإمارات العربية المتحدة من جهة وقطر من جهة أخرى اتخذ من ليبيا مسرحا للصراع الدموي والاكتفاء بالحرب الديبلوماسية والتجارية والإعلامية في منطقة الخليج. كما يعتبر المجال الليبي امتدادا للصراع الدائر في سوريا من حيث التحالفات ولو أنّ التناقضات الخليجية – الخليجية تخفت حدّتها في سوريا حيث تلتقي قطر والإمارات العربية المتحدة وتركيا في دعم الجماعات الإرهابية وانتهاك السيادة الوطنية السورية. كما أنّ القاسم المشترك بين الحربين الأهليتين هو الدور القذر الذي تلعبه وما تزال التمويلات الخليجية في تأجيج نار الاقتتال في البلدين برعاية القوى الامبريالية الحريصة على إمساك كل خيوط الصراع في انتظار تشكيل ملامح الوضع النهائي الذي يتوافق مع مخططاتها في وضع اليد على المنطقة بثرواتها وموقعها الاستراتيجي في طرق التجارة الدولية.
تونس ضحيّة التّوجّهات الرّجعيّة والشّعبويّة لقوى الحكم
هذا الفتيل المشتعل من مضيق هرمز شرقا إلى مضيق جبل طارق غربا يُنذر بتفجير أوضاع ملغومة في العراق وسوريا وليبيا لم يكن كافيا لدفع الأطراف الرجعية الماسكة بزمام الحكم في بلادنا لمراجعة حساباتها وتحالفاتها المشبوهة منذ 2011. بل إنّ تقمّص دور الوكيل المحلي للقوى الرجعية الإقليمية وللقوى الإمبريالية أصبح يشكّل جوهر مشروعها السياسي والاقتصادي وحتى الثقافي. ولم يشذّ الرئيس الجديد للجمهورية التونسية عن هذه القاعدة بإذعانه لمشيئة المحور القطري – التركي واستسلامه أمام الإذلال الديبلوماسي الأردوغاني في عقر داره. حيث أنّ أولى خطواته الديبلوماسية بعد اعتلائه سدة الرئاسة كانت باتجاه هذا المحور من خلال استقباله لممثلين عن حكومة طرابلس بمن فيهم رئيسها، ومن ثمة استقباله للرئيس التركي في زيارة خاطفة غير معلنة مصحوبا بوفد مدجّج بالنوايا العسكرية والأمنية (وزير الدفاع ومدير المخابرات). لكن الأدهى والأمر من هذا الغباء الاستراتيجي والتبعية المذلّة هو ممارسات رئاسة الجمهورية وتسويق هذه الزيارة للشعب التونسي على أنها زيارة حبلى بالإنجازات الاقتصادية والهبات التركية. لكن رجب طيب أردوغان لم يتأخر لتوجيه صفعة أخرى لمضيّفه. فما إن عاد إلى تركيا حتى أعلن “اتّفاقه مع قيس سعيد على دعم حكومة السراج في ليبيا”.
لقد سقط قيس سعيد سقوطا سياسيا مدوّيا في أول خطوة يخطوها في مجال السياسة الخارجية بظهوره كأداة تنفيذ للمهندس الفعلي للسياسة الخارجية التونسية. وهو نفس المهندس الذي زجّ ببلادنا في الأحلاف الرجعية جاعلا منها حديقة خلفية للجماعات الإرهابية في ليبيا. لكنّ السقوط الأبشع هو السقوط الأخلاقي لرئيسٍ بنى حملته الانتخابية على الجملة المبدئية الفضفاضة التي ألهبت حماسة ناخبيه وفي مقدمتها تخوين كلّ مطبّع مع الكيان الصهيوني لتنفجر هذه الفقاعات الخطابية في أول ممارسة باستقباله المذل لكبير المطبّعين في المنطقة والحليف الاستراتيجي للكيان الصهيوني ومكوّن من مكوّنات حلف شمال الأطلسي.
كلّ المؤشرات تدلّ أنّ القوى الرجعية الماسكة بأجهزة الحكم في بلادنا لم تكتف بصناعة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في الداخل. بل هي مُقدِمة على صناعة كوارث ديبلوماسية في الخارج ستكون لها انعكاسات وخيمة على بلادنا وعلاقاتها مع جيرانها ولا سيما الجزائر التي أعلنت في أكثر من مناسبة تنديدها بالتدخل الأجنبي في ليبيا وقلقها المتزايد من الدور الذي تلعبه تركيا في منطقتنا. وفي الوقت الذي تطالب فيه القوى الثورية في تونس بإماطة اللثام عن كافة الاتفاقيات العسكرية السرية التي أبرمها النظام النوفمبري ما فتئت قوى الالتفاف على الثورة تمعن في انتهاج الديبلوماسية السرية وإبرام الاتفاقيات المريبة.
فليستعدّ التونسيون والتونسيات للإطلالة على الهوة السحيقة التي صنعوها بأنفسهم بين الانبهار بالجمل الثورية الرنانة والخطابات المبهرة التي منحوها ثقتهم والممارسة التي تمعن في إذلال الشعب والمتاجرة بكرامته الوطنية وسيادته. إنكم على موعد مع دروس قاسية تلقّتها شعوب كثيرة قبلنا واستوعبتها. فإمّا استيعاب الدرس وتصحيح المسار وإمّا...
حبيب الزموري