مازالت الأزمة السياسية والاقتصادية العالمية تتخبّط في ظلّ سياسة المحاور للدول ومحاولتها البحث عن حلول تحفظ بها مصالحها الداخلية والخارجية. آخرها، احتضان العاصمة الألمانية برلين مؤتمرا بتاريخ 19 جانفي الفارط خصّص ظاهريا للأزمة الليبية وسبل حلّها وشارك فيها كلّ من الولايات المتحدة الامريكية وروسيا وبريطانيا وفرنسا والصين والإمارات وتركيا والكونغو وإيطاليا ومصر والجزائر. في المقابل لم تحضر تونس ولم تتمّ دعوتها رسميا للمشاركة إلاّ عشية انعقاد هذا المؤتمر ليعتذر قيس سعيد عن المشاركة لما اعتبره دعوة متأخرة لتونس دولة الجوار لليبيا
أمّا الأنظمة العربية والخليجية التي انقسمت بين المحاور الخارجية نراها – على غرار البحرين والإمارات – تساند وبكل وقاحة قرار الإدارة الأميريكية في تهويد القدس وتقديمها للكيان الصهيوني، وهو ما يؤكد مرة أخرى أنّ هذه الأنظمة العربية العميلة لا تحمي سوى مصالحها على حساب إرادة الشعوب في التحرّر والتقدم
ليبيا أوّلا، العراق ولبنان ثانيا
انتهى مؤتمر برلين الذي حضره كلّ من خليف
حفتر وفائز السراج إضافة إلى الدول المذكورة بالاتّفاق على تطبيق قرار الأمم المتحدة بحظر دخول الأسلحة إلى التراب الليبي وموافقة المشاركين في المؤتمر على عدم تقديم الأسلحة إلى الأطراف الليبية ومراقبة ذلك.. لكن ومع نهاية أشغاله رفض كلّ من السراج وحفتر الجلوس أو التواجد في مكان واحد. ورفضا الإمضاء على اتفاق إطلاق النار في موسكو. فيما نقلت تقارير إعلامية ليبية أنّ إطلاق النار تواصل حتىّ أثناء انعقاد هذا المؤتمر المذكور. ما يعني أنّ مخرجات هذا المؤتمر قد لا تحقق نتائجها في حال لم يتمّ إيجاد آليات جديّة تضمن تسوية حقيقية وتحفظ كرامة الشعب الليبي وثرواته الطبيعية – السبب الحقيقي للحرب.الخفية بين دول المحاور دوليا وإقليميا
ومن الواضح أنّ الدول المشاركة في هذا المؤتمر ناقشت سبل تسوية الأوضاع في سوريا حفاظا أيضا على مصالحها بعد الأزمة التي تخبطت وانخرطت فيها منذ سنة 2011. وهو ما يحدث ميدانيا من دعم لقوات الجيش السوري وبوادر التوصل إلى تسوية للوضع. في المقابل تعمد هذه المحاور على دعم الأنظمة الحاكمة في كلّ من العراق ولبنان التي تواصل قمع -وبأكثر حدة-التحرّكات الشعبية التي تطالب بالتغيير وكنس وجوه الحكم الحالية
من جانب آخر يواصل ترامب تعنّته وشطحاته أمام صمت وتخاذل وتطبيع الأنظمة العربية الحاكمة ليعلن عن تفاصيل ما يسمى بـ”صفقة القرن” والتي ينسف من خلالها حقوق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته الموحدة وعاصمتها القدس. وبمجرد الإعلان عن هذه النكبة الجديدة هللت بعض الأنظمة الخليجية بها. فيما ظل الموقف التونسي الرسمي مبهما واكتفت الخارجية التونسية في بيان يتيم لها بمساندة القضية الفلسطنية عموما، واكتفى قيس سعيد خلال المناظرة التلفزية الأخيرة له بتكرار نفس الجمل الفضفاضة بأن التعامل مع الكيان الصهيوني يعد خيانة عظمى. وقد تهرب خلال هذه المناظرة من إعلان أية مبادرة جدية والأدهى أنه اعتبر أن إصدار قانون لتجريم التطبيع غير جدي
إن الوضع الدولي والإقليمي يتسم بتطاحنات للمحاور وبتتالي الصفقات والتسويات لعدة قضايا لكن ليس لمصلحة الشعوب بل لمزيد تفقيرها ونهب ثرواتها. فهل لهذا الوضع الدولي والاقليمي أيّ تأثير مباشر أو غير مباشر على الوضع الداخلي في تونس؟ وهل كان اختيار الياس الفخفاخ نتيجة ضغوطات داخلية وخارجية؟
ضغوطات داخلية وخارجية تفرض اسم الفخفاخ
إثر فشل حكومة الحبيب الجملي في نيل ثقة
مجلس نواب الشعب، وبناء على الفقرة الثانية من الفصل 89 من الدستور، كلّف قيس سعيد بتاريخ 20 جانفي الفارط وزير السياحة والمالية الأسبق إلياس الفخفاخ بتشكيل حكومة في ظرف شهر وهو اختيار لم تتوقّعه غالبية الكتل البرلمانية الحالية باعتبار أن هناك أسماء أخرى طرحت من أكثر من طرف. في المقابل لم يطرح اسم الفخفاخ سوى حزب “تحيا تونس” ودعمهم حزب التيار الديمقراطي
وبناء على التكليف للفخفاخ، انطلق الأخير فعليا في مشاورات مع الأحزاب السياسية لكن عمد إلى إقصاء حزب “قلب تونس”. ولم تتم دعوته في بداية هذه المشاورات ليعلن خلال ندوته الصحفية الأولى على نيته تكوين حكومة سياسة مصغرة لن يشارك فيها سوى من دعّم قيس سعيد في الدور الثاني من الانتخابات وأنّه لا مكان لقلب تونس أو الحزب الدستوري الحرّ في حكومته وأنّ مكانهما “المعارضة”. ويتبين أن خطابه الأول كان أجوفا ويتسم بالعموميات. فلم يقدم أي برنامج حقيقي أو جدي لإنقاذ البلاد من الأزمة الاقتصادية والاجتماعية الخطيرة التي تمر بها
ولا يخفى عن الجميع أنّ تكليف الفخفاخ كان نتيجة ضغوطات داخلية وخارجية مورست على قيس سعيد. وهو ما أكدته تصريحات عدة قيادات في حركة النهضة بأنّ سعيد كان سيعلن عن اسم أخر من أجل تشكيل الحكومة. لكن تم تغيير ذلك وفرض اسم الفخفاخ، ومن الواضح جدا أنّ الضغوط الخارجية مورست أساسا من الرئيس الفرنسي ماكرون خلال اتصاله بقيس سعيد يوم 20 جانفي الفارط والتعلة الخارجية التي روّج لها هي الاعتذار نوعا ما عن عدم تشريك تونس في مؤتمر برلين والوعد على تشريك تونس في المشاورات المقبلة حول الأزمة الليبية
أيضا لم ننتظر كثيرا -بعد الندوة الصحفية- للفخفاخ وإعلانه لتصوره للحكومة المنتظرة غير الناضجة ودون برنامج حقيقي. بل اتسمت بالنهج الإقصائي، وهو ما دفع بحركة النهضة التي رحبت في بداية الأمر بالتكليف إلى إعلانها عن ضرورة تشكيل حكومة كفاءة وطنية يشارك فيها قلب تونس وكل الأطراف منوهة في بيانها الصادر عن مجلس الشورى الأخير عن استعدادها لجميع الفرضيات بما فيها انتخابات برلمانية مبكرة
إن التصريح علنا خلال هذه الفترة عن الاستعداد لانتخابات مبكرة لا يعدو إلاّ أن يكون بوادر خلاف بين رئاسة البرلمان ورئاسة الجمهورية وهو تهديد واضح أوّلا لكلّ من حركة الشعب والتيّار الديمقراطي المساندان إلى الآن توجه الفخفاخ -بعدم تشريك قلب تونس والحزب الدستوري الحر في الحكومة-. أما ثانيا فهو تهديد لقيس سعيد بالتخلّي رسميا عن دعمه ودعم ممثله أي الفخفاخ من قبل حركة النهضة. وهو ما يطرح عدة فرضيات منها مدى إمكانية رضوخ الفخفاخ لهذه التهديدات وقبوله بتشريك قلب تونس أو المرور إلى عدم نيل الثقة من قبل البرلمان ما يعني تطبيق الدستور في دعوة قيس سعيد رسميا إلى حل البرلمان الحالي والمرور إلى انتخابات برلمانية مبكّرة
إنّ اختيار الفخفاخ هو في الظاهر خطوة منسجمة مع توجّه قيس سعيد وحزامه السياسي المزعوم، لكن في العمق هي خطوة تبدو غير ناضجة، فهي إقصائية لبعض الأطراف، ووثوقية عمياء لأطراف أخرى مساندة. ولكن يبدو أنّ تلك الأطراف المساندة غير موثوق فيها مثلا الموقف الأخير لحركة النهضة وائتلاف الكرامة. وإنّ هذه الخطوة تجعل من الفخفاخ رهينة لاختيارات سعيد وقد تضعه في مسار ضيّق وصعب
ونتيجة أفق هذا المسار في تشكيل الحكومة الذي يتّسم بصعويات جدية وبحزام سياسي هشّ وغير موثوق به، سيكون مآله إمّا التراجع عن خطته، وبالتالي التضارب مع رؤية قيس سعيد أو احتمال سقوط الحكومة وهو يظل واردا بنسبة ضعيفة لأنّ هناك هواجس ومخاوف من إعادة الانتخابات التشريعية
إن هذا الوضع -رغم الندوتين الصحفيتين للفخفاخ- سيظل غامضا حتى إلى آخر لحظات تشكيل الحكومة والتصويت عليها في البرلمان، خاصة أن هناك صعوبات مشتركة بين الفخفاخ والأطراف المشاركة في المفاوضات معه فهي بدورها تعيش تحت ضعوطات داخلية وخارجية
لكن بقدر غموض هذا الوضع، فإنّ هناك حقيقة موضوعية وتارخية واضحة تتجلى في حقيقة الفخفاخ، فهو من مدرسة ليبرالية مطيع ومتعاون مع الدوائر المالية الدولية خاصة منها صندوق النقد الدولي وتاريخه المشهور في تلك الرسالة السرية التي وجّهها بصفته وزيرا للمالية في عهد الترويكا لصندوق النقد الدولي وتعهده بتطبيق إجراءات جديدة على التونسيين، إضافة إلى فرضه لما يسمى “أتاوات” استهدفت أساسا قطاع الفلاحة والفلاحين
إنّ إصلاحاته الكبرى والهيكلية التي أوردها في وثيقته “المرجعية” لا تغدو أن تكون إلّا وثيقة فضفاضة وذرّا للرماد على العيون والهدف الحقيقي منها هو ضمان مساندة أكثر من طرف سياسي له في اتجاه نيل الثقة من البرلمان. وهو ما أعلنه صراحة خلال ندوته الصحفية الأخيرة من أنّ “10 أحزاب” تسانده حاليا
إنّ الفخفاخ المكلّف المطيع هو مجبر و مضطرّ في الأخير إلى تنفيذ إملاءات صندوق النقد الدولي، ولتتمتّع حكومته من القسط الثالث للقرض من قبل هذا الصندوق، وحتى لا ننسى فإن هذا المسار الذي ينتهجه الفخفاخ هو ذاته الذي انتفض عليه الشعب التونسي، ومن غير المستبعد مواصلة الفخفاخ في رهن البلاد والتفويت فيها رغم شعاراته الشعبوية والفضفاضة
إنّ هذا الوضع الاستثنائي الذي تمر به البلاد من أزمة خانقة ومتزايدة يتطلب حلاّ استثنائيا وبرنامجا حقيقيا وجريء ومنقذا للبلاد. وهذا بعيد كل البعد عن حكومة الفخفاخ المترقبة وعن البرلمان الحالي العاجز، وهو ما يتطلب من القوى الديمقراطية والتقدمية والثورية مزيدا من النضال والتوحّد فيما بينها. فاللحظة التاريخية الحالية تتطلب منّا نضالا استثنائيا وجرأة أكثر في طرح البديل وبرنامج حكم يقطع مع السياسات العميلة للصناديق الدولية ومن أجل استكمال مهام الثورة وتحقيق أهدافها والتصدي وفضح شعارات ظاهرة الشعبوية التي لم نعيرها اهتماما بالقدر الكافي سابقا
فاتن حمدي