كثر اللغط في المدة الأخيرة حول كيفية التصدي لوباء “الكورونا” الذي تتجه كل المؤشرات إلى أنه سيشهد تصاعدا في حجم ضحاياه. ولئن أعلنت السلطة مجموعة إجراءات أُعتُبر بعضها متأخرا مثل إعلان حظر التجول والحجر الصحي العام، فإنّ الإجراءات الاقتصادية والاجتماعية التي أعلنها رئيس الحكومة يوم السبت 22 مارس مساءً قد أثارت حيرة عند قطاع واسع من الناس. فمن جهة ينزع جزء مهمّ من الرأي العام إلى “مساندة” الحكومة في هذا الظرف الخاص الذي سمّاه الكثيرون ظرف “الوحدة الوطنية” – لذلك فهم يُجهدون النفس كي يفسّروا ويُبرّروا ويدافعوا عن القرارات-، فيما يرى آخرون أنّ القرارات المعلنة دون ما يستحقّه الوضع وليست سوى ذرًّا للرماد في العيون.
إجراءات الحكومة منحازة طبقيّا
لقد بدا التركيز على المؤسسات الاقتصادية وعلى أصحاب الأعمال واضحا من خلال تمتيعهم بإجراءات استثنائية تشمل الضرائب والمساهمة في الصناديق الاجتماعية والتسهيلات البنكية والمالية. في المقابل من ذلك لم تتعدّ الإجراءات التي تشمل الأجراء ومحدودي الدخل إلاّ وعودا عامة بتوفير الحاجيات الضرورية (؟؟)، وتمتيع الأجراء من أصحاب الأجر دون الألف دينارٍ من تأجيل اقتطاع الأقساط الخاصة بالقروض لمدة شهرين (؟؟)، أما المعوزون فتمتيعهم بمنحة من وزارة الشؤون الاجتماعية. إضافة إلى عدم إيقاف التزود بالماء والكهرباء والهاتف لمدة شهرين في حالة عدم الخلاص.
إنّ هذه الإجراءات محدودة ولا تمكّن جماهير الشعب من تحسين قدرتهم على مواجهة المرض. صحيح أنّ المرض في حدّ ذاته “عابر للطبقات”. لكنّ القدرة على مواجهته طبقية بامتياز. فالأثرياء قادرون على المواجهة العليا، ولهم كل شروطها. أمّا الفقراء فليسوا الأكثر عرضة للوباء فقط، بل هم الأقلّ قدرة على مواجهته. إنّ هذا الوباء يتطلب بصفة مباشرة الحجر الصحي الذاتي أو الإلزامي، بما يعني تعطّل القدرة على العمل وفقدانه أصلا في عديد الحالات، وهو ما يدمّر القدرة على الاستمرار، فما بالك مواجهة الوباء؟
إنّ الفقراء وحدهم يتضورون جوعا، ووحدهم يتضررون من غلاء المعيشة الذي بلغ في المدة الأخيرة حدودا غير مسبوقة، ووحدهم يعجزون عن تسديد معاليم الكراء وتوفير المؤونة، خاصة للصغار الذين فرض عليهم البقاء في المنزل، والفقراء فقط ينعكس عليهم وضع الصحة العمومية الكارثي بطبعه.
إنّ الحكومة لم تفكر في هؤلاء، ومنحة العجّز لن تكفي مؤونة أسبوع لعائلة محدودة العدد. أمّا العمال اليوميون الذين يشتغلون بحضائر البناء (المْرمّة) وعاملات وعمال القطاع الفلاحي والسياحي وماسحي الأحذية ومصلحي الدراجات وأصحاب الورشات الصغرى والكثيرون مثلهم الذين لا دخل لهم سوى كدّ يمينهم المعطّل الآن، فكيف سيعيشون؟ وكيف سيواجهون الوباء؟ كيف للذين يعيشون على هامش علاقات الإنتاج مثل جامعي القوارير والمتسوّلين وبائعي الفول والسجائر بالتفصيل والمناديل الورقية… كيف لهم الاستمرار؟ بل كيف يمكن إقناعهم بالبقاء في البيت؟
إنّ المعطى الطبقي هو معطى موضوعي (ولو أنكره الخصوم والمضلِّلون). وليس هناك مساواة أمام المرض. فهذا وهم تريد الطبقات الطفيلية ومروّجو أفكارها إيهام الناس به. ثمة طبقات مسيطرة تتولّى الدولة حمايتها وقت الأزمات، وما خطوط التمويل والضخ البنكي والضّريبي إلاّ دليلا على ما نقول، وثمة الطبقات الشعبية والمفقّرة “محكوم” عليها (إلى حين) بالصبر وانتظار الفرج. ليس هناك مساواة في الحرب، علما وأنه لو كانت الحرب عسكرية وتم الاعتداء على الوطن فلن تجد في الصفوف إلاّ فقراء البلاد وكادحيها.
لقد تقدمت عديد القوى التقدمية والاجتماعية بعديد المقترحات لتحسين قدرة الشعب على مواجهة الوباء، لكن الحكومة واصلت الصمت وانتهاج سياسة النعامة، وهي التي تصرّ على توجيه كميات ضخمة من المال إلى الصناديق النهّابة وتحرم منها شعب تونس، وهي التي ترفض فرض ضريبة استثنائية على أصحاب الثروات الكبرى ولا تخجل من دعوة الشعب المفقّر إلى المساهمة. وهي التي تعطي بسخاء لأصحاب المؤسسات وتقتّر الإجراءات الخاصة بالأجراء مثل عدم تعميم إيقاف الاقتطاع على القروض لكافة الموظفين والعمال.
إجراءات لا بدّ منها
كل أمانينا أن تتمكن بلادنا وكل المجتمع الإنساني من طيّ صفحة هذا الوباء سريعا وبأقل خسائر ممكنة. لكن وبصفة عاجلة وحتى تتحسن قدرة مجتمعنا على التصدي والصمود في وجه هذه الجائحة ثمة إجراءات لابد منها وهي أساسا الإجراءات التي تمسّ القاع الاجتماعي، أي الطبقات والفئات الأكثر فقرا وحرمانا. فالأجراء في القطاع العام، وخاصة في القطاع الخاص، لابدّ لهم من تأمين جراياتهم بالكامل، وأصحاب القروض من الأجراء ومن الفلاحين والبحارة والحرفيين وأصحاب المشاريع الصغرى لابدّ لهم من تجميد لاقتطاعات البنوك ومؤسسات التسليف. والمُياومين (خدّام حزام) من مختلف القطاعات (حظائر البناء، الفلاحة، السياحة، المهن الهامشية…) لابدّ لهم من مداخيل تعزّز شعورهم بالانتماء لهذا الوطن وقدرتهم على مواجهة الجوع والحاجة بحكم البقاء في البيت، وسكان الجبال والمداشر والقرى والأرياف النائية لابدّ لهم من إسنادٍ في هذا الظرف الاستثنائي.
وفي مقدمة الجميع، الإطار الطبي وشبه الطبي في طول البلاد وعرضها، والذي يعمل في ظروف قاسية وغير إنسانية ولا تتوفر فيها أدنى شروط الحماية الذاتية فما بالك بمساعدة الناس. طبعا السؤال المطروح سيتعلق بالموارد المالية لتنفيذ كل هذا. جوابنا أنّ المال يجب أن يأتي من الأماكن التي يتخزّن فيها المال، من أصحاب الثروات الكبرى ومن الموارد المبرمجة لخلاص الديون وخدمتها والمبرمجة للمشاريع المعطّلة ومن جيش المهرّبين والمتهرّبين الذين ترتعش أمامهم أيادي الحكومة، في حين لا تشعر بالمعرّة والخجل حين يجوع الفقراء ويتعرّون ثم تفترسهم الكورونا.
علي الجلولي