تواترت في الأيام الأخيرة تصريحات أعضاء حكومة الفخفاخ الدّاعية إلى “شرعيّة” المضيّ في سياسة التداين لدى الخارج ولدى صندوق النقد الدولي أساسا. فقد صرّح وزير المالية يوم الاثنين 23 مارس الجاري إثر حضوره بقصر باردو، اجتماع خليّة الأزمة التابعة للبرلمان قائلا “تمّ بالتشاور مع صندوق النّقد الدّولي إيقاف المراجعة السادسة لبرنامج التعاون بين تونس والصندوق، والدخول في برنامج جديد يعكس التوجهات الجديدة للحكومة خاصّة في الجانبين الاقتصادي والاجتماعي”. كما صرّح محمد عبو مساء يوم 24 مارس 2020 في تلفزة التاسعة بما يلي: “لن نتمكن من خلاص الموظفين لشهر أفريل في حال لم يتمّ المصادقة على مشاريع قوانين القروض”.
وتأتي هذه التصريحات للردّ ضمنيا على دعوات حزب العمال (اُنظر بيانه بعنوان مواجهة وباء ”الكورونا” بجدّيّة ونجاعة أمر ممكن بتاريخ 24 مارس 2020) وغيره من الأحزاب (اُنظر البيان المشترك لعدد من الأحزاب) إلى “تعليق تسديد المديونية”. وهو ما عبّر عنه صراحة سليم العزابي في حديث لإذاعة موزاييك قائلا: “إنّ دولة الاستقلال التي بناها بورقيبة عندما تُوقّع على وثيقة تلتزم بها وأنها تحصل على قروض لأنّ لها مصداقية… إذا أخللنا بمصداقيّتنا المالية الدولية فإنّ تونس ستسقط من قائمات الدّائنين وعدم الخلاص سيكون بمثابة خطأ قاتل”.
وتؤكّد كلّ هذه التصريحات أنّ حكومة الفخفاخ كما كنّا توقعنا من قبل ماضية في سياسة التداين ومزيد تعميق أزمة المالية العمومية والأزمة الاقتصادية ككل.
والغريب في الأمر أنّ هذه التصريحات تأتي في الوقت الذي أطلق فيه أعضاء الحكومة صيحات فزع بخصوص المصاعب الاقتصادية والمالية التي تعترض البلاد والتي هي مرشحة لمزيد التعقيد جرّاء تفشي الوباء. ووصل الأمر بعبّو أن نبّه إلى إمكانية عجز الدولة عن دفع الأجور. وبدل أن تتحلّى الحكومة بالحدّ الأدنى من الشجاعة والمسؤولية وتتخذ القرارات الملائمة وعلى رأسها تعليق تسديد الديون لتوفير ما يقارب 12 مليار دينار لتسديد حاجيات وزارة الصحة وأوساط واسعة من الشعب التونسي مهدّد بالمجاعة علاوة على المرض والموت، بدلا من ذلك تؤكّد حكومة الفخفاخ أنها لا تختلف في شيء عن سابقاتها وأنها مواصلة في نفس الخيارات التي أدّت بتونس إلى وضعٍ ينذر بالانهيار. والأغرب من كلّ ذلك أنّ الحكومة انطلقت في مفاوضات مع صندوق النقد الدولي حول إبرام اتّفاق جديد لمنح تونس قرض جديد على غرار القرض الائتماني لسنة 2012 والقرض الموسّع لسنة 2016. هكذا وبكلّ وقاحة تزجّ الحكومة بالبلاد في “رهنيّة” جديدة من الأكيد أنها ستكون أسوأ من اتّفاق القرض السابق الذي مازال ساريا ووقع تعليق العمل به، فيما مازال القسط السادس منه “محجوزا” لدى الصندوق بدعوى أنّ الحكومة لن تُوفِيَ بتعهّداتها في تنفيذ الإصلاحات التي أوصى بها وفق نصّ الاتّفاق المذكور.
لقد قبلت الحكومة التخلّي عن القسط السادس مقابل منحها نفس المبلغ تقريبا (400 مليون دولار، أي حوالي 1160 مليون دينار) كمساعدة لمجابهة وباء “الكورونا” علما وأنّ الصندوق قرّر رصد مبلغ 50 مليار دولار للاستجابة لطلبات مساعدة من حوالي 80 دولة. ويبدو أنّ موافقة الصندوق على تعليق العمل باتفاق قرض 2016 والدخول في مفاوضات لإبرام اتفاق جديد جاء بغاية تضمين الاتفاق هذه المرة توصيات أكثر صرامة وإلزامية لتونس انطلاقا من تقييمه لحصيلة الاتفاق السابق (ماي 2016) الذي لم تتقيّد به الحكومات التونسية على الوجه الأتمّ وربما لأن الاتفاق نفسه كان “متساهلا”. ومن المتوقّع أن يكون الاتفاق الذي بصدد التفاوض في شأنه بين حكومة الفخفاخ وصندوق النقد الدولي أكثر صرامة وإلزاميّة.
ومن أوجه الغرابة في هذا السلوك هو كيف تُقْدِم الحكومة على مثل هذا القرار دون تقييم حصيلة الاتفاقيات السابقة والحال أنها كبّدت تونس تسديد حوالي 1500 مليار دينار، علاوة على اتّباع توصيات اتّضح ضررها بالاقتصاد مثل قرار تمتيع البنك المركزي بالاستقلالية في إطار ما يسمّى بإصلاح المنظومة المالية والمصرفية في تونس. والحقيقة أنّ النظام التونسي في عهد بن علي كما في عهد حكومات ما بعد الثورة (الترويكا وائتلاف النداء والنهضة) تعوّدت على تمرير مثل هذه القرارات دون تقييمها ودون فتح استشارة وطنية حولها. فحكومة يوسف الشاهد دخلت في مفاوضات مع الاتحاد الأوروبي حول الأليكا دون تقييم نتائج اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي والحال أنها ألحقت أضرارا جسيمة بالنسيج الصناعي والاقتصادي التونسي.
الواضح أنّ مسألة التداين للخارج ولدى صندوق النقد الدولي بالذات هي قناعة أيديولوجية ترتقي إلى مصاف العقيدة الراسخة لدى الحكومات الرجعية التي توالت على تونس. وتكتسي هذه القناعة أبعادا اقتصادية (الإيمان العميق بالليبرالية المتوحشة) وسياسية (التبعية للخارج والاستهتار باستقلال القرار الوطني). وما التبريرات الاقتصادية والمالية المقدمة لإقناع الشعب التونسي بضرورة اللجوء إلى صندوق النقد الدولي وإلى التداين الخارجي عامة إلاّ غطاء لفرض هذه العقيدة النيوليبرالية. والكثير من الأوساط السياسية والنقابية والإعلامية يُدركون هذه الحقيقة. ومطلوب منهم اليوم، أحزابا ومنظمات وجمعيات وإعلاميين ومختصّين في الاقتصاد وشخصيات وطنية، ممارسة كلّ الضغوط اللازمة من أجل كبح جماح هذا الهروب إلى المجهول الذي تمارسه الحكومة. ومن المطلوب أيضا تحميل أحزاب حركة الشعب والتيار الديمقراطي مسؤوليتهم والقيام بدورهم في هذا الاتجاه بناء على الأقل على ما ورد في برامجهم الانتخابية (أنظر أسئلة حركة الشعب للحبيب الجملي كشرط للمشاركة في حكومته).
جيلاني الهمامي