ما إن خيّم شبح فيروس “الكورونا” على بلادنا حتى أطلقت البورجوازية الكبيرة في تونس طلائعها لغزو مختلف وسائل الإعلام لشنّ هجوم كاسح على كلّ من تُسوّل له نفسه المساس بمصالحها أو الدعوة إلى مراجعة المنوال التنموي. وتمارس في الآن نفسه سياسة ضغط وابتزاز على أجهزة الدولة لانتزاع ما أمكن من تعويضات مالية وإعفاءات ضريبية وبنكية.
ولم يتأخّر الائتلاف الحاكم في الاستجابة لإملاءات الطبقة البورجوازية. بل إنه أمعن في انحيازه الطبقي المفضوح. ولم يجد وزير التجارة محمد مسيليني حرجا في الاكتفاء بالتصريح بأنّ أحد الكومبرادوريين المالكين لمصنع كمامات طبية واقية رفض تزويد الحكومة بكمية من الكمامات بحجّة أن ّأولويته هي الاستجابة لطلبات السوق الخارجية دون أن يتجرّأ لا هو ولا حكومته على وضع يدها على المنتوج أو حتى على المصنع برمّته إن لزم الأمر لتجد أجهزة الدولة برمتها نفسها عاجزة عن توفير الحد الأدنى من الضمانات الصحية والغذائية لمواجهة زحف “الكورونا”، مقابل مواصلة مختلف أجنحة البورجوازية حصد الأرباح والمزيد من الأرباح. بل إنّ الوضع يشير إلى بداية نشأة ما يصطلح على تسميته “بأثرياء الحرب” في ظلّ توسّع نشاط السماسرة والمحتكرين لا سيّما في سوق المواد الغذائية والأدوية.
وما إن خيّم شبح “الكورونا” على بلادنا حتى هرع الجميع لطلب النجدة والحماية من مؤسسات القطاع العام بمن فيهم أولئك الذي حملوا معاولهم لهدمه وتخريبه وتقديمه فريسة سهلة لرأس المال المحلي والأجنبي. يقف القطاع العام اليوم شبه أعزل لخوض الحرب نيابة عن الشعب بأسره تحت قيادة حكومة متواطئة في عملية التفويت الممنهج للمؤسسات العمومية تنفيذا لتوصيات صندوق النقد الدولي وإصرارا منها – شأنها شأن الحكومات المتعاقبة قبل الثورة وبعدها – على لعب دور الوكيل المحلي للرأسمالية العالمية. فالسيد إلياس الفخفاخ يُعتبر منذ سنة 2011 أحد مهندسي سياسة التداين ورهن البلاد لتوصيات المؤسسات المالية العالمية. وكانت أزمة “الكورونا” فرصة للوقوف عند حجم الخراب والدمار الذي لحق منظوماتنا الصحية والغذائية نتيجة السياسات المتّبعة من حكومات ما تزال مصرّة على المضيّ قدما في نفس المسار الليبيرالي المتوحش وعلى ممارسة نفس الانحياز الطبقي الفاحش إلى معسكر أقلية متمعّشة من تلك الخيارات والتوجّهات.
هذا على مستوى الممارسة، أمّا على مستوى الخطاب فإنّ الائتلاف الطبقي الحاكم يمارس أفحش أنواع النفاق برفع شعارات الوحدة الوطنية ورعاية مختلف فئات الشعب التونسي وهو المدافع عن مصالح أقلية لا شيء يعنيها من الأزمة ومن المآسي الإنسانية سوى الربح والمزيد من الربح، وفي الحالات القصوى تقديم تنازلات جزئية للحيلولة دون انهيار المنظومة الرأسمالية وعبور الأزمة بسلام لاستئناف مسيرة الاستغلال.
هذا هو جوهر القضية وجوهر الصراع بيننا كاشتراكيين منحازين للطبقات الكادحة وبين الطغمة الرأسمالية وممثليها في أجهزة الدولة: هل إنّ الاقتصاد وعملية الإنتاج برمّتها في خدمة الإنسان أم أنها في خدمة رأس المال؟ هل هي في خدمة غالبية الشعب أم إنها في خدمة أقلية؟ هل هي وسيلة لتحرير البشرية من سطوة الأوبئة والمجاعات؟ أم إنها وسيلة للاستعباد والهيمنة؟
حبيب الزموري