لم تتحسّس الإنسانية وتستشعر بكلّ انتماءاتها وتشكّلانها الوطنية والقومية وطبقاتها وفئاتها الاجتماعية الخطر الداهم الذي يستهدف وجودها المادي-البيولوجي كما تفعل الآن مع وباء “الكورونا”. وباء هزّ كيان الإنسانية ووضعها أمام مصير مجهول تغيب عنه التوقّعات الدقيقة وتَمَثّل المآلات الممكنة رغم كل ما راكمه العقل العلمي من إحداثيات ومناهج تفسيرية وما حفظته ذاكرة الإنسانية عن تاريخ الأوبئة على مدى الأزمنة المرويّة والمكتوبة.
“الكورونا” ليست عدوّا طبقيّا ولا هي فاشيّة تغتال الحرية ولا هي أصوليّة دينيّة إرهابية تهدّد النمط المدني للحياة وحقّ الاختلاف. وإنما هي عدوّ وبائي بيولوجي جديد وخطر آخر من زمن الأسلحة المستحدثة التي يركبها قطار موت لا يرحم.
وبغض النظر عن المقاربات الفلسفية والبيوإيتيقية والعلمية التي تعاطت في جزء منها مع هذا الوباء على وقع الصدمة والفاجعة وبنوع من الارتجالية والاختزالية بسبب سرعة انتشار الوباء والتحوّلات الجينية وعمليات التكيّف البيئي التي تطرأ على الفيروس وتعجز عن وضع أشكال ناجعة للتّوقّي واللقاح والعلاج، بقطع النّظر عن ذلك، فإنّ هذا الوباء كشف مرة أخرى عن هشاشة الوجود الإنساني وعن مدى عقلانيّة وملاءمة نمط الحياة نفسه لمقاومة الأخطار التي تتهدّد الوجود الإنساني ذاته أو على الأقل التقليل من حدّتها ووقعها الصّادم والمميت. والمقصود بنمط الحياة هاهنا هو نمط الحياة الفردية-الفردانية والجماعية في ما يسمّى مجتمعات الاستهلاك المعمّم في نظام العولمة وهيمنة ورقابة وتحكّم النيوليبرالية المتوحشة.
“الكرونا”، فشل آخر للرّأسماليّة
ورغم الطابع الفجئي لوباء “الكورونا” وبصرف النظر عن مصدره الجغرافي والبيولوجي وتداعياته الكارثية الحاصلة الآن على نطاق جغرافي واسع، فإنّ هذا الوباء مثّل لحظة اختبار جدّي وموضوعي للإمكانات العلاجيّة والتقنيّة لخدمات الصحة ومعايير توزيعها الطبقي والاجتماعي وقدرتها على استباق الأوبئة سريعة الانتشار والعدوى ونجاعتها وفعاليّتها. ووضع على محكّ الامتحان قدرة النظام الرأسمالي المعولم بمراكزه ودُوَلِه الطرفية والفقيرة على التعاطي مع هذا الوباء واستراتيجيا احتوائه التقني واللقاحي والعلاجي. فالرأسمالية المعولمة بكلّ إمكاناتها الاقتصادية الإنتاجية والربحية والهيمنية واشاعتها للنموذج الاستهلاكي الكوني وبكلّ نظمها السياسية ومراكز فعلها وأجهزتها السلطوية وديمقراطيتها البرجوازية الشكلية وإمكاناتها الاتصالية غير المسبوقة، فإنها فشلت ،حيث أخفقت، في التعامل مع مارد “كورونا” ووضعت كلّ رصيدها الاقتصادي والتقني وتحكّمها بالعقل العلمي، ولو لحين، موضع السّؤال والرّيبة، مثلما أنها أنتجت شكلا جماعيّا جديدا للموت حيث يتساوى كل البشر أمام المصير نفسه بصرف النظر عن انتماءاتهم العرقية والإثنية والطبقية.
إنّ وباء “كورونا” بوصفه خطرا عالميا، أبان عن مجموعة من المفارقات والتناقضات المركبة والمعقدة، مفارقات وتناقضات من جنس تزامن الزيادة الكمية والنوعية للثروة الاقتصادية (رغم طابعها اللاّمتكافئ في التوزيع ومنسوب الرفاه الاجتماعي) وطفرة البنى والوظائف الاتصالية والرقمية المعولمة مع فشل في التعامل مع الأزمات المفاجئة بالنجاعة التي تحمي البشر وتنقذهم من خطر الموت الجماعي المعمّم كما يحدث الآن في إيطاليا والولايات المتحدة الأمريكية. إلى جانب أنّ العولمة، بكلّ نظمها السلطوية القهرية، أدّت في هذا “المنعرج الوبائي” الحاصل آنيا إلى بوادر أولية لتفكك جيو- سياسي بالنسبة للاتحادات والتجمعات الاقتصادية مثلما يحدث الآن في الاتحاد الأوروبي. فوحدة القوميات في شكل محاور ومجالات اقتصادية بات مهدّدا بسبب فقدان التضامن وانكفاء كل دولة على نفسها. وبالمقابل فإنّ هذا الوضع الوبائي العالمي أفرز مدّا تضامنيا/وتعاطفا إنسانيا أمميّا خارج الأسيجة التقليدية للنظم المدنية التقليدية (الانتماء إلى الدولة والانتماء الهووي والقومي، التجمعات الاقتصادية الإقليمية)
لقد كشف وباء “كورونا” بشكل جليّ للإنسانية أنّ الرأسمالية هي الخطر الأكبر على الإنسان أينما كان وأنّ التفاوت الاجتماعي في السلطة والملكية والثروة لا يتلاءم مع الإمكانات الاقتصادية والمالية المتوفّرة للبشرية، وأنّ الدولة كشكل للسلطة وكجهاز للتحكّم الطبقي باتت أكثر استقالة من مهامها الاجتماعية والحمائية للأفراد وأنّ خيارها الاقتصادي-السياسي-الثقافي القائم على خوصصة الملكية ونظام الخدمات والرفع من مقادير الضريبة والأداء على الخدمة والحياة هي جميعها عناصر سياسة فاقدة للوازع الإنساني. وفي هذا السياق يمكن الاستدلال بضعف ولاجاهزية بُنَى ومراكز الخدمات الصحية العمومية حتى في أعتى معاقل الرأسمالية والدول الأكثر تفوّقا من ناحية الثروة والإمكانات التكنولوجية (مع استثناء نموذج الدول ذات التوجه الديمقراطي الاجتماعي والدول التي تسودها رأسمالية الدولة كشكل لإنتاج الثروة وتوزيعها والتحكّم في نظام الملكية والخدمات الاجتماعية…).
فيروس “كورونا” وسؤال المستقبل
هذه الوضعية الاستثنائية للبشرية والتهديد المتزايد لوباء “الكورونا” لمدة قد تطول وقد يُفرض معها نظام وقائيّ أكثر صرامة بواسطة الحجر الصحي العام والشامل بسبب تأخّر المخابر العلمية-الصحية في إنتاج اللقاح الملائم للفيروس، هذه الوضعيّة، ذهبت بعالم الاجتماع الفرنسي جاك أتالي إلى حدّ القول بـ“أنّ العالم لن يعود كما كان” وبأنّ “هناك تغيّرات تمسّ بنى العولمة التقليدية… وإعادة تشكيل ثوابت المجتمعات الاستهلاكية الكبرى… وإعادة تأسيس سلطة مبنيّة على التعاطف…” الوضعية ذاتها ذهبت بإدغار موران إلى حدّ القول: بأنّ الحجر الصّحّي الذي فرضته “الكورونا” على قطاع واسع من البشر “يمكن أن يساعدنا على البدء في تطهير أسلوب حياتنا”… و“ربما تغيير علاقتنا بالزمن”… و”التخلّي عن العقيدة النيوليبرالية من أجل سياسة مضادة للأزمة الاجتماعية والبيئية”
“العالم لن يعود كما كان! “: ولكن على أيّة صورة، وبأيّ معنى وإلى أيّ مدى واقعي؟ وهل أنّ فرضيّات التوقّع بمستقبل أفضل للإنسانية، ما بعد وباء “كورونا”، ترتقي فعلا لانتظارات كلّ البشر في وضع صحّي بيولوجي ونفسي منصف ودائم؟
الإجابة عن هذه الأسئلة لا يمكن أن تكون قطعية بأيّ حال، ولكن يمكن تلمّس بعض عناصرها (على نحو غير مرتب) في ما يلي:
- إعادة وضع العقل العلمي في مجال الطب والمقاربات البيوإتيقية على مسار الأبحاث الاستباقية وتفسير ورصد الفيروسات والأوبئة ذات الأصل البيولوجي بشكل عام والفيروسات الجرثومية الاصطناعية التي يمكن توظيفها في الحروب القادمة إلى جانب الأسلحة التقليدية في المستقبل بشكل خاص.
- مراجعة نقدية للوظيفة التقليدية للدولة كمجموعة مؤسّسات وجهاز إداري سياسي تقني فوق الطبقات مهمّته إدارة وتسيير الشأن العام وتوفير ودعم الخدمات الاجتماعية (كما هي الحال في التصوّر البرجوازي-البونبارتي وحتى المقاربة الكاينزية لوظيفة الدولة في الأزمات الاقتصادية) بالنّظر إلى ما تؤدّيه الدولة في وضعية وباء كورونا (خاصة في الأنظمة العسكرية والملكيات العائلية والاوليغارشية والديمقراطيات البرجوازيات الشكلية وغيرها من الأنظمة المشابهة من حماية للأثرياء والبرجوازيات الطفيلية والكمبرادور…) من حماية للثروات وعدم جدية في مقاومة الاحتكار والمضاربة وترفيع للأسعار في مواد الاستهلاك.
- مقاومة إنسانية واسعة لأشكال الهيمنة والرقابة والتّحكم والإلهاء النيوليبرالية والعمل على إسقاط سطوة ونفوذ المركز الاقتصادي النيوليبرالي وكلّ ما يرتبط به من أيديولوجيا واستبداد لثقافة الاستهلاك والفردانية وكل ما له علاقة بالتهديد المباشر لصحة الإنسان وحقّه الطبيعي في الحياة.
- انبعاث محاور طبقية اجتماعية حقوقية وثقافية وبيئية واسعة للمقاومة المدنية الإنسانية ضد هيمنة وتحكّم سلطة رأس المال ودفاعا عن توزيع عادل للثروة وعلى توفير الأدنى من حقوق الإنسان المفترض تحقيقها من طرف الدولة.
- انغلاق الدول على نفسها في ما يشبه وضعية الانكفاء على النفس ومحاولة فرض مسار جديد لانعزال الشعوب وتحقيق “سيادتها” الوطنية بمنأى عن التدخل الخارجي ورفضا لمبدأ المصير الإنساني المشترك. وفي مقابل ذلك فإنّ حركة المقاومة الإنسانية التقدمية الواسعة يمكن أن تتّخذ منحى مخالفا/نقيضا للانغلاق وانكفاء الدول على نفسها في ما يتماهى مع حالة من المدّ التضامني الأممي.
علي بنجدو /ناشط يساري مستقل