إثر مداخلة رئيس الدولة في افتتاح مجلس الأمن “القومي” التونسي بتاريخ الثلاثاء 31 مارس 2020 حول مستجدات الوضع في تونس، بادر الأستاذ حمة الهمامي الأمين العام لحزب العمال التونسي بتوجيه رسالة إلى رئيس الدولة تضمّنت تقييما تفصيليا لمداخلة الرئيس المذكورة بشكل خاص وللأداء السياسي للرئيس وظهوره الإعلامي على مدى الفترة السابقة، وخاصة في ما يتصل بتعاطي مؤسسة الرئاسة مع مستجدات الوضع السياسي والاجتماعي المرتبط بالوضع الصحي العام نتيجة انتشار وباء كورونا وتزايد الإصابات وحالات الحجر الذاتي والجماعي في المراكز وكلّ ما تبعها من إجراءات تدخّل محدودة للحكومة وتداعيات اجتماعية وردود أفعال لدى فئات اجتماعية واسعة ومتضرّرة من الوباء.
تفاعلا مع هذه الرسالة من باب تكثيف مضامينها والبناء عليها في الشرح والاستنتاج وتلمّس تقاطعاتها السياسية مع ما يفترض بالحكومة التونسية فعله الآن وما يجب على القوى التقدمية واليسارية طرحه كمهام مباشرة في هذه الفترة الفارقة من التاريخ، تفاعلا مع هذا سأبوّب المقال في ثلاثة مستويات أساسية:
1. الإجراءات الاقتصاديّة والماليّة:
قدّمت الرسالة تصوّرا دقيقا للإجراءات الاقتصادية الاستثنائية والعاجلة، تصوّر يغطّي في تفاصيله كل ما هو مطروح على الحكومة التونسية إنجازه في القريب العاجل تأمينا للخدمات الصحية الضرورية وتوفيرا للحد المطلوب من الخدمات الاجتماعية والإمكانات المالية الدنيا لفئات وشرائح واسعة من الشعب التي فقدت موارد رزقها بسبب حالة الحجر الصحي العام.
إجراءات مالية استثنائية ممكنة في حال توفّر الإرادة السياسية لتعبئة الموارد الضرورية لذلك، بدءً بتعليق تسديد الديون الخارجية البالغة 11700 مليون دينار، واستخلاص ديون الدولة من التهرب الضريبي لأصحاب الشركات الكبرى، وفرض ضريبة استثنائية على الثروات الكبرى، وترشيد التوريد..
إنّ هذه الإجراءات العاجلة، إلى جانب هبات مالية بعض الدول التي تمّ صرفها (أو الوعد بصرفها في القريب) لفائدة الدولة التونسية، تمثّل حلولا عملية متاحة للتعامل مع الوضع الاقتصادي الاستثنائي بشروط مالية ملائمة تحدّ من خطر الوباء وتقلّل من انتشاره…
2. الإجراءات الاجتماعيّة والصحيّة:
المقصود بهذه الإجراءات هو التعاطي مع وضعية الوباء المتصاعدة بإجراءات اجتماعية ومالية وخدماتية ولوجستية وبآليات تنفيذ استثنائية تتمّ مركزتها لدى الدولة في قرارات عملية ويعهد لجهات التنفيذ سرعة تنفيذها، وهي إجراءات تبرز دور الدولة في الأوضاع الاستثنائية التي تتعطّل فيها على نحو كبير دورة الإنتاج الاقتصادي ومسارب التجارة الداخلية والخارجية. إجراءات على وتيرة ونسق مخالفين للمعتاد اليومي ولحياة الشعوب في الوضع السلمي.
ولقد تضمنت الرسالة، في طرحها للإجراءات، ما يتماهى مع ما يجب على مؤسسات الحكم في تونس القيام به في وضعية الحرب (حرب مركبة ضد الوباء، الفساد، ضعف أداء الدولة،…) وقدّمت طرحا يجمع بين توصيف الوضعية الاجتماعية الاستثنائية من جهة وطرح البدائل الدنيا الممكنة التي تحفظ كرامة المواطن وحقّه في الصحة والحياة من جهة ثانية ومنها: تدخّل خاص بالخدمات الصحية والوقائية على أوسع نطاق ممكن بكل ما يعنيه ذلك من زيادة في الاختبارات وتعميمها على مناطق تونس وتوظيف للنزل المغلقة للحجر الصحي ووضع لوسائل الحماية والوقاية ومراكز العلاج العمومي والخاص (المصحات، المخابر…) وكل الإمكانات من أجهزة ومواد ولوجستيك صحي على ذمة الدولة تناسبا مع استراتيجيا واضحة للحد من هذا الوباء واحتواء تداعياته الاجتماعية المتوقعة.
إنّ المطالبة بالاستجابة لهذه المقترحات كسياسة صحية مقنّنة ونافذة للدولة بمعيّة إجراءات اجتماعية مرافقة (تجميد تسديد قروض صغار الفلاحين وأصحاب المشاريع الصغرى والمتوسطة، الإعانات المالية للفقراء والمعدمين، العفو الجبائي على قطاعات واسعة من المنتجين الصغار والمتوسطين، تمكين مستعملي الانترنيت من تغطية مجانية للخدمات على امتداد فترة الحجر الصحي العام…)، إنّ الاستجابة لكل هذه الإجراءات بعنوان الأزمة التي أحدثها انتشار وباء “كورونا” وسياسات الدولة الاقتصادية والاجتماعية ما قبل انتشار هذا الوباء تمثل شرطا موضوعيا ضروريا لحماية الشعب التونسي من تعامل سياسي غير مسؤول وموغل في خيارات غير شعبية وغير منصفة تؤدي بالنهاية إلى وضح سلامة التونسيين وحقوقهم الاقتصادية والاجتماعية على المحك.
3. أهمية الرّسالة في هذا الوقت:
لقد كثفت هذه الرسالة في مضامينها، كما في لحظة توجيهها إلى مؤسسة الرئاسة، وتنبيهها للإخلالات والنقائص التي ميّزت أداء منظومة الحكم في تونس بكل مؤسّساتها، كما في تمثّلها ورصدها لخطورة الوضع في تونس والعالم. لقد كثّفت جزء كبيرا من المعاناة والضّجر والقلق الذي يعيشه التونسيون وعكست النقد الذي يمارسه الغالبية الغالبة من الشعب التونسي من عامة الناس إلى نخبة المثقفين لسياسة الدولة التونسية في طريقة تعاملها مع هذا الوضع الاستثنائي (غياب استراتيجيا واضحة، الارتجالية، غياب مركزة القرارات، غياب الجرأة، عدم الارتقاء بالموقف الرسمي للدولة التونسية حتى إلى ما تطرحه المؤسسات المالية فيما يخصّ تأجيل دفع الديون المستحقة على الدول، عدم إلزام أصحاب الثروات الكبرى بدفع مساهمة مالية استثنائية لمجابهة الوباء…).
لقد شخّصت هذه الرسالة مواطن قصور الدولة في هذا الظرف الاستثنائي وجسّدت إلى جانب بعض المواقف الأخرى (سواء الصادرة عن أحزاب تقدمية ووطنية أو منظمات وطنية كالاتحاد العام التونسي للشغل) التي طرحت في أغلبها حلولا جزئية مهمّة تحمّل الدولة مسؤوليتها السياسية والاجتماعية والأخلاقية إزاء الشعب التونسي.
وإذا كانت مؤسسة الرئاسة ومثلها الحكومة قد أخذا في المدة الأخيرة ببعض المقترحات الصادرة عن المعارضة الوطنية والتقدمية والاتحاد العام التونسي للشغل (دون إعلام الرأي العام بذلك) في كيفية التعاطي مع الوباء (الحجر الصحي العام مثلا، اتباع استرتيجية وقائية استباقية، توسيع دائرة اختبار الفيروس…) أو الإجراءات الاجتماعية الواجب اتّباعها (تأجيل تسديد قروض الأجراء، المنح المالية الاستثنائية للعائلات الفقيرة ومؤسسات الإنتاج الصغرى،…) فإنه يُفترض برئيس الدولة والحكومة الأخذ على محمل الجادة كل المقترحات التي تساعد الشعب التونسي في التصدي لهذا الوباء بأقلّ تكلفة ممكنة.
أعتقد أنّ التاريخ سيذكر هذه الرسالة وينصفها لأهمية ما ورد فيها بصرف النظر عن المآلات التي يمكن أن تُفضي إليها هذه الأزمة.
علي بنجدو
ناشط يساري مستقل