كورونا، الكائن الذي لا يمكن أن نراه بأعيننا المجرّدة، ومع ذلك تمكّن من أن يقلب عالمنا خلال أيام معدودة. انتشر من شرق الأرض إلى غربها. أصاب البشر في مختلف المناطق والقارات، كما أصاب الدول المتقدمة والنامية. لا يفرّق بين غني وفقير، بين دينيٍّ ولادينيٍّ، لا يعرف فكرًا ولا سياسة ولا اقتصادًا. خلال شهرين استطاع إجبار قيادات العالم على اتخاذ قرارات غير متوقعة وشلَّ جميع اقتصاديات العالم وغلق حدود معظم الدول.
أثار وباء “كورونا” القاتل حالة من الفزع، فقد حصد أرواح الآلاف حول العالم وما يزال يواصل حصاده.
غير أنّ الوباء لم يكن شرًا مطلقا. بل منح الأرض “فسحة من الحياة”، وهدنة ربما كان كوكبنا في حاجة إليها. فقد تسببت الإجراءات الاحترازية المصاحبة لانتشار الفيروس في فوائد عدّة. فأمام عدد الضحايا المتزايد في العالم بدأ النظام البيئي في التعافي.
ذكرت بعض التقارير أنّ فيروس كورونا قام بتنظيف جزئي للجو في كل مناطق العالم التي مرّ بها، بدءً بالصّين نحو بقية دول آسيا وأوروبا وأمريكا. فقد حدّ من التجمعات والازدحام غير المبرّر في الأماكن العامة وحدَّ من حركة الطيران ومن تنقّل الأشخاص عبر القطارات والحافلات التي تبعث كميات كبيرة من ثاني أكسيد الكربون الملوّث للفضاء. وما زالت طبقة الأوزون تتآكل حتى وصلت إلى درجات خطيرة حسب دراسات “NASA”. كما أنّ ذوبان الثلوج في القطبين قد بلغ مرحلة حرجة ممّا يجعل كوكبنا على بعد سنوات من انفجار بيولوجي قد يهدّد وجوده.
وما تزال اعتداءات البشر الطامع في مزيد من الربح المادي والإنتاج المتواصل على حساب الطبيعة والطبقات الفقيرة التي جعلت من الإنسان أبخس رأسمال في الوجود على عكس ما هو مأمول. وحتى إن لم يكن فيروس كورونا أحد تلك النتائج السلبية لتغوّل منطق الربح الطاغي على الإنتاج على حساب الإنسان والبيئة، فإنّ هذا الوباء مثّل لكوكبنا فرصة لالتقاط بعض الأنفاس.
يبدو أنّ سنة 2020 ستكون أنظف سنة في تاريخ البشرية الحديث. بعد أن زاد اعتناء الناس بنظافتهم بسبب جائحة كورونا، بل إنّ دولًا ومدنًا ومجتمعات صغيرة اعتبرت “كورونا” فرصة للتعقيم الشامل الذي لم يحدث فيما سبق نظرًا للاكتظاظ، اكتظاظ الأماكن المستمر بالناس. وقد دقَّ الكثير من العلماء ناقوس الخطر بسبب التغير المناخي والانحباس الحراري.
كما أنّ أكثر دول العالم كثافة سكانيّة، وهي الصين، تتصدّر الدول من حيث الانبعاثات الغازية التي بلغت 30% العام الماضي من حجم الغازات عالميا. ففرض السلطات الصينية لحظر التجوال في البلاد ساهم في تقليص هذه الانبعاثات، حيث أشارت وزارة البيئة الصينية إلى أنّ جودة الهواء حقّقت ارتفاعا بنسب تجاوزت 21% وذلك بوقف المصانع والملاحة الجوية جرّاء الحجر الصحي الذي دُفعت له البلاد بعد انتشار الفيروس .
لم يكن انخفاض التلوث ملحوظا في الصين فحسب، إذ أشارت جامعة كولومبيا في الولايات المتحدة أنّ الفحوصات الأخيرة التي أجريت في نيويورك أظهرت تحسّنا كبيرًا في نوعية الهواء وذلك بالمقارنة مع العام الفارط .
أمّا في إيطاليا فعادت نقاوة مياه القنوات في مدينة البندقية بعد توقف القوارب العاملة على موانئها منذ إعلان الحجر وحظر التجوّل وبضعف حركة السياح في المدينة. لقد بات ممكنا رؤية الأسماك الصغيرة تحت سطح المياه وبات ممكنا أيضا رؤية انعكاسات الأبنية على المياه النقية وهو ما لم يحصل منذ سنوات. ومن بين الانعكاسات الإيجابية على البيئة أيضا، من المنتظر أن تشهد ثلوج القطبين خلال هذه الفترة أدنى درجات ذوبانها. وهو ما يساعد بشكل كبير ومؤثّر على ظاهرة الانحباس الحراري والتغيّر المفاجئ في المناخ والطقس حول العالم .
كما أنه من المنتظر أن تشهد خلجان كل من قابس وجرجيس وحلق الواد وبنزرت أدنى انبعاثات للغازات المسجلة في تونس على الإطلاق خاصة مع توقف المجمع الكيميائي الذي يصدر غازات سامة ملوثة للهواء في منطقة غنوش من ولاية قابس جنوب البلاد .
ممّا لا شك فيه أنّ فيروس “كرورنا” المستجد قد شكّل فرصة كبيرة ومهمّة لتستعيد الأرض، ولو قليلا من توازنها البيئي والمناخي، ولتحافظ الطبيعة على دورها الذي دمّره توحّش الرأسمالية العالمية الطامح إلى تكديس الإنتاج والأرباح على حساب البشرية وظروف حياتهم الطبيعية.
علاء الجامعي