حدثت في الأزمنة الماضية أوبئة أشد فتكا بالبشرية. لكنها جرت مكتومة غير مكشوفة لتظهر لنا لاحقا في كتب التاريخ وتاريخ العلوم بأثر رجعي، حيث لا أحد كان يعلم ما الذي كان يحدث في الإقليم المجاور له.
أما في عالمنا اليوم، فإن كورونا تجري في واضحة النهار تحت أنظار الأضواء والعدسات والهواتف الذكية لتتدفق على صفحات التواصل الاجتماعي أمامنا في بيوتنا دون استئذان.
تُنقل المأساة على الهواء مباشرة لتبدو لنا كأنها القيامة صوتا وصورة ولونا، ممّا يفاقم رعبنا وذعرنا.
ماذا لو كانت وسائل الاتصال الحديثة حاضرة أيام طاعون جيستينيان(541-750 ) والذي أدّى إلى هلاك مابين 30 و50 مليون إنسان، أي حوالي نصف سكان الكون في ذلك الوقت؟
ماذا لو كانت وسائل الاتصال الحديثة حاضرة زمن وباء الموت الأسود (1347-1351) حين ضرب كامل اوروبا وأفنى 20 مليون إنسان؟ ماذا لو كانت العدسات حاضرة زمن الجدري (في القرنين 15-17) حيث أودى بحياة 20 مليون إنسان، 90%منهم من القارة الأمريكية؟ ماذا لو كانت هناك تغطية حينية لانتشار وباء الكوليرا (1817-1823) والذي أودى بحياة ملايين من البشر؟
ماذا لو كانت الهواتف الذكية حاضرة زمن الأنفلونزا الإسبانية (1918-1919) والتي أصابت 500 مليون إنسان وتسببت في هلاك 50 مليون؟
كوارث ومآسي أفنت شعوبا وأسقطت امبراطريات عانت منها البشرية في صمت وفي جنح الظلام. وصلتنا صفحات من كتب التاريخ وأفلام وأعمال فنية في حين نشاهد اليوم بشكل مباشر وحيني هذا الوباء وتداعياته في كل أرجاء الدنيا. ما هو متاح لنا اليوم كان غائبا في الأزمنة الماضية ممّا جعل لهذا المشهد تداعياته الاجتماعية والنفسية غير المألوفة ما يعمّق خوفنا ورهبتنا من الحاضر وأفق المستقبل الذي نجهل مداه ونهاياته بفعل سلطة الصورة الحية على عقولنا ووجداننا.
المهم أنه لا ينبغي أن يسيطر علينا مرض الخضوع لسلطة الصورة الحية والخبر الفوري وعلينا أن نتذكر أنّ وسائل الاتصال الحديثة حتى زمن الكوارث والحروب والأوبئة ينبغي أن تكون لها حدود. ذلك أنّ الفايسبوك مثلا قد يصلح كوسيلة لنقل الخبر أو حتى لتنظيم الحركة. لكنه ليس صانع فكر أو مشاريع أو ثقافة علمية تنويرية. فالحركة قد تكون لها دوافع وروافع، ولكن الأهم هو استيعاب التاريخ قبل الحدث وبعده.
لا ينبغي أن يغيب عنا أبدا حتى ونحن في قلب المحنة التي ستنتهي في كل الأحوال أنه يتعين علينا أن نتعرف بوعي وبشكل كاف على الحقائق الفكرية والاقتصادية والاجتماعية في بلدنا وفي العالم قبل كورونا وبعدها وما تتيحه من فرص للتقدم. فالعقول في الغرب بدأت في إنتاج ما ينفع شعوبها وتجمع على أنّ تداعيات الوباء ستستمر لأجيال وسوف تغير النظم محليا وسوف تغير النظام العالمي برمته.
وبغض النظر عن آثار الوباء على الصحة التي قد تكون مؤقتة، فإنّ الارتدادات السياسية والاقتصادية والاجتماعية ستكون أكثر عنفا. الأهم أنّ الدولة تبذل جهودا لايستهان بها للانتصار على هذا الوباء. لكن هذا المجهود “الحربي” لاينبغي بأيّ حال من الأحوال أن يشغلنا عن مهمة لا تقل خطورة عن الأولى وهي ضرورة إطلاق “مشروع الانتقال” إلى دولة مابعد الكورونا.
وعلى ذلك لا بد من أن يكون شعارنا يد تدير الأزمة وتقاوم الوباء ويد تبني تونس الجديدة في آن واحد وعلى أسس جديدة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا دون إعادة إنتاج الماضي. فكل أزمة فرصة، إذا ضاعت هذه المرة كما ضاعت فرصة 17 ديسمبر فسيضيع معها المستقبل رغم الكلفة والتضحية والأعباء.
“من الممكن إنقاد البشريّة طالما أنّ الامبرباليّة تمرُّ بأزمةٍ عميقة. دون أزمة لا تحصل التّغييرات، ولا يتشّكل الوعي. وانّ يوما واحدا في ظلّ أزمة ما يشكل وعيًا يوازي زمنيًا أكثر من عشر سنوات دون أزمة”. (فيديل كاسترو، من الخطاب الذي ألقاه في مؤتمر حوار الحضارات العالمي، 30 مارس 2005).
حفظكم الله ورعاكم