بقلم الأستاذ محمود مطير
قدّمت الجبهة الشعبية للشعب التونسي مشروع ميزانيّة بديل لميزانية حكومة علي العريض النهضاوية لسنة 2014. وقد لاحظنا تفاعلا كبيرا مع المشروع سواء على مستوى مناضلي الجبهة أو الإعلاميّين أو المتابعين للشأن السّياسي والاقتصادي. وتراوح التفاعل بين مرحّب ومنتقد لبعض الجوانب ومشكّك في قيمة المشروع.
ونحن نعتقد أنّ النقد مسألة أساسية بل ندعو إلى عدم الاكتفاء بالنقد الخارجي وإنما تفعيل سلاح النقد العميق والدقيق إيمانا منا بأهمية النقد والنقد الذاتي. ولكنّ التشكيك في العمل يختلف عن النقد الذي عادة ما يبرز مواطن القوة ومواطن الضعف وهو ما نرحّب به بحثا منا على الاستفادة والتقدّم والتّطوّر.
ينطلق التّشكيك عادة من مواقع فكريّة وأيديولوجيّة وهو ما حدث بالنسبة لمشروع ميزانية الجبهة البديل إذ لاحظنا أنّ بعض ممثلي الفكر الرجعي المتحجّر والمتغلّف بالدّين (حركة النهضة) من جهة وممثلي الفكر الليبرالي الذين حفظوا بعض الدروس في الجامعة يطبّقونها في كلّ مكان وزمان (عادة بانتهازية كبيرة) حاولوا أن يجعلوا من مشروع الجبهة مشروعا بعيدا عن الواقع.
بيّنت الحركات الاخوانية، بعد تجربة دامت عامين في تونس (النهضة) وتجربة دامت عاما في مصر (الاخوان) وقبلهما تجربة الإخوان الفاشلة جدا في السودان حدود الفكر الاقتصادي للإسلاميين وتطبيقهم الأعمى لأوامر أسيادهم بصندوق النقد الدولي واستنزاف قدرات شعوبهم في التّداين بما أدّى إلى انهيار اقتصاديات بلدانهم وتدهور ظروف عيش الطبقات الشعبية. ويلتقي الليبراليون مع الحركات الاخوانية في التطبيق الأمين “وصفات” صندوق النقد الدولي وتفقير الشعب وتحميله تبعات الأزمات الاقتصادية الرأسمالية.
ويمكن أن نحصر المسائل التي تعرّض إليها المشكّكون في مشروع الجبهة في مسألتين تتعلقان بالاعتماد على الذات أي عدم اللجوء إلى التّداين وتعليق المديونية (أولا) والدور الاقتصادي والاجتماعي للدولة (ثانيا).
أوّلا– حول الاعتماد على الذّات وتعليق المديونيّة
بلغ تداين الدولة التونسية حاليا حدود 50 ./. من الناتج الداخلي الخام وورد بقانون المالية أنّ الدولة التونسية تعوّل بالنسبة لسنة 2014 على ما قدره 8.000 م د (أي ما يساوي 30./. من مجموع موارد الميزانية) كموارد اقتراض من ضمنها اقتراض خارجي بقيمة 5.236 م د.
كما أنّ نفقات الدولة لسنة 2014 تتضمّن مبلغا قدره 4.675 م د نفقات الدّين العمومي وتسديد أصله.
وقد اقترحت الجبهة الشعبية في مشروع الميزانية البديل:
· الاستغناء عن الاقتراض الخارجي وذلك لضمان الاستقلال المالي والسياسي للبلاد والاعتماد على الذات في تمويل ميزانية الدولة.
· تعليق تسديد الديون الخارجية لمدة محددة (3 سنوات مثلا) في انتظار عمليّة تدقيق شاملة للديون التي تمّ اقتراضها في عهد بن علي وذلك باتفاق مع الدائنين إن اقتضى الأمر لتحديد نسبة الدّيون الكريهة فيها.
لكنّ المشكّكين يقلبون الحقائق ويتجاهلون الفرق بين تعليق تسديد الديون الخارجية الذي نادت به الجبهة الشعبية وإلغاء الديون الخارجية وذهب أحدهم إلى القول أنّ الجبهة تريد أن “تقلب” الدائنين.
الحقيقة أنّ الجبهة لم ترفع شعار إلغاء الديون بل أكّدت أنّ المسألة تتمثل في تعليق الدّيون الخارجية لمدّة محدّدة أي تأجيل الدفع لأسباب عدّة أهمها أنّ:
· الوضع الاقتصادي الصعب في تونس يتطلّب تمويلات مهمة يصعب توفيرها ومن الأجدى أن يمكّن الدائنون بلادنا من مهلة زمنية (un moratoire) من شأنها أن تمكّن البلاد من الاستفادة من المبالغ الموجّهة لخلاص الدّيون في مشاريع ذات فائدة اقتصادية (منتجة ومشغّلة) وتحميها من اللّجوء من جديد إلى الاقتراض.
· الديون التي تطرح الجبهة تعليق تسديدها هي ديون ترجع لفترة حكم بن علي وهناك ما يؤكّد أنّ بن علي وعائلته والمقرّبين منه، هم الذين استفادوا منها لذا وجب القيام بتدقيق (audit) وفرز الديون الصحيحة من الديون الفاسدة أو الكريهة (les dettes odieuses) وبناء على ذلك تلتزم تونس بخلاص الديون الصحيحة. وقد أكّدت الجبهة أنّ عملية التأجيل تتمّ باتفاق مع الدائنين على إثر مفاوضات تُدار عبر القنوات الدبلوماسية. وهناك تجارب دولية عديدة في هذا الميدان آخرها مثال أيسلندا. فالمسألة ليست إذن بدعة ” اليسراوية ” كما يروّج المشككون.
وقد طرحت الجبهة في نفس الوقت عدم اللجوء إلى التداين الخارجي من جديد نظرا إلى أنه من غير المعقول أن نطلب تعليق تسديد الديون من جهة ونتوجّه إلى الدائنين للاقتراض في نفس الوقت، وهو ما يبيّن أنّ الجبهة لا ترفض التّداين الخارجي في المطلق وبصفة مبدئية أو دوغمائية وإنما تعتبر أنّ العملية تخضع إلى مقتضيات الواقع وإلى شروط أهمّها:
· مراعاة قدرة الاقتصاد التونسي على تحمّل التّداين لذا يجب ضبط حدوده
· ضرورة أن يكون التّداين موجّها إلى الاستثمار وليس إلى الاستهلاك أو لخلاص الدّيون مثلما فعلت النهضة.
·وأخيرا ضرورة أن لا تخضع عمليّة التّداين إلى الشروط المجحفة التي يفرضها بعض الدائنين مثلما هو الحال الآن مع صندوق النقد الدولي الذي يشترط توجيه اقتصاد وسياسة البلاد في اتجاه الليبرالية المتوحّشة واستباحة البلاد للمستثمرين الأجانب عبر مجلة استثمار لا تخدم إلاّ هؤلاء على حساب الرأسمال الوطني وعلى حساب الفئات الشعبية (استنزاف القدرة الشرائية ومزيد تفاقم البطالة والفقر ).
وجوابا عن السؤال التضليلي الذي عامة ما يطرحه المشكّكون: إذا قبلنا فرضا هذا الطرح فمن أين ستموّلون مشاريعكم الاقتصادية العديدة؟ يتمثّل الحلّ في مشروع ميزانية الجبهة البديل في الاعتماد على القدرات الذاتية وذلك:
· بتطوير مردوديّة الجباية بتفعيل القوانين السّارية المفعول واقتراح بعض الإجراءات القانونية الأخرى التي تسهّل عمل مصالح المراقبة الجبائية إذ بتدعيم هذه المصالح بشريا وماديا واقتراح بعض الإجراءات الاستثنائية سيتوفر للدولة مداخيل جبائية إضافية تقارب 4.000 م د
· باقتراض داخلي إضافي (إلى جانب القرض الرّقاعي القصير الأمد المبرمج في ميزانية 2014). ويتمثل الاقتراض الذي قدّر بـ2.500 م د في قرض رقاعي متوسط المدى تكون فائدته معفيّة من الضريبة.
وهكذا يتّضح أنّ الحلول المعتمدة على القدرات الذاتية متوفّرة لا ينقصها إلاّ الإرادة السياسية والرؤية الوطنيّة الجريئة.
ثانيا– حول الدّور الاقتصادي والاجتماعي للدّولة
يردّد بعض المشكّكين مقولة أنّ الدولة التي تقوم بالاستثمار قد ولّى عهدها وأنّ دورها لا يزيد عن دور الشرطي وحماية الأمن وأنها من الناحية الاقتصادية تقتصر على توفير بعض التجهيزات والبنية التحتيّة وأنّ دورها الاجتماعي يجب أن يكون محدودا جدّا. ومعلوم هؤلاء “السلفيون” الاقتصاديّون الذين يطبّقون دروسا تعلّموها في بعض الجامعات الأمريكية ينطلقون من منطلقات ايديولوجيّة بحتة لتبرير اختياراتهم المفلسة ويشوّهون الحقائق والفكر السليم والواقع.
هؤلاء بالذات كذّبهم رجال السياسة والاقتصاد في جنتهم “أمريكا” بالذات لأنّ الدولة الأمريكية عندما حلّت أزمة 2008 الاقتصادية وضعت كلّ ثقلها وموّلت أكبر الشركات والبنوك والمصارف الخاصة لإنقاذها ولم يقل أحد عندها لماذا تلعب الدولة هذا الدور الاقتصادي؟.
أمّا في فرنسا التي لا يقلّ نظامها الاقتصادي “رأسمالية” عن شقيقتها الولايات المتحدة الأمريكية فقد طرحت الحكومة في سنة 2013 إمكانية اللجوء إلى تأميم بعض المؤسسات الخاصة لإنقاذها وإنقاذ عمّالها وقد رحّب بهذا الحلّ رأس المال قبل العمّال.
لذا نقول لكلّ المشكّكين نحن لا نخفي توجّهنا في أن تقوم الدولة بدور ريادي في الاقتصاد ولكنّ الواقع أيضا يؤكّد صحّة موقفنا. فتونس تمرّ بفترة صعبة ومن الصّعب أن يغامر أصحاب رأس المال الخاص (الوطني والأجنبي) باستثمار أموالهم في الجهات التي تمرّ بصعوبات، وهو ما أكّده ممثلو اتحاد الصناعة أكثر من مرّة.
ثم لنقيّم دور الرأسمال الخاص وبصفة أخصّ المحلّي منه : ماذا قدّم رغم التشجيعات الجبائية والمالية والعينيّة التي وفّرتها له الدّولة طيلة عقود؟
لقد اتّجه على الدوام إلى الاستثمار في القطاعات سهلة المردود وفوريّة الرّبح والخالية من المخاطر وظلّ دائما عازفا عن العمل في الميدان الصناعي المنتج للثروة وذي القدرة التشغيلية العالية رغم ما وفّرته الدولة من ظروف الاستثمار (مناطق صناعية مثلا) ويذكر على سبيل المثال أنّ المنطقة الصناعية بسيدي بوزيد أنشئت منذ 20 سنة وهي إلى الآن خالية تماما من أيّ مؤسّسة صناعيّة.
إنّ المتمعّن في مشروع الجبهة (وليس من الضروري أن يكون مختصّا في الاقتصاد) يمكن أن يفهم أنّ الجبهة لم تطرح برنامجا اشتراكيا. فنحن في مرحلة التحرّر الوطني الديمقراطي وإنما يتأتّى الدور الاقتصادي المهمّ للدولة في هذه الفترة من أنّ القطاع الخاص مازال يحتاج إلى من يعبّد له الطريق ولمن يعطيه الثقة. هذا الدور الذي لا يمكن أن يقوم به غير الدولة. لذلك أكّدنا على دورها الرّيادي والقيادي في عملية التنمية. وقد تضمّنت بعض المشاريع المقترحة والمهمّة شراكة بين القطاعين العام والخاص (تكرير النفط).
أمّا في ما يخصّ الدّور الاجتماعي للدولة فيبدو أنّ المشكّكين في مشروع الجبهة ينقصهم الحسّ السياسي والوطني في نفس الوقت، إذ كيف ندعو الدولة إلى التنازل عن هذا الدّور في حين أنّ قوانينها وتشريعاتها تعطي الامتياز تلو الامتياز للمؤسسات الاقتصادية الرأسمالية (وخاصة الضغط على الأجور) على حساب الأجراء وندعوها إلى عدم القيام بدور تعديلي.
نعم إنّ الدور الاجتماعي للدولة هو دور تعديلي (إن لم نقل ترقيعي) ذلك أنّ تحديد الأجور في مستوى لا يفي بحاجة العامل خدمة لصاحب العمل من شأنه أن يطرح على الدولة القيام بدور اجتماعي تعديلي يتمثل في توفير الأدنى من الخدمات الصحيّة والتعليم…
ثم إنّ الدولة عندما تقرّر توفير منحة بطالة لأصحاب الشهائد المعطّلين عن العمل (مثلا) فإنّما تحمي رأس المال لأنّ الثورة انطلقت من مثل هؤلاء فضلا عن كونه محفّزا للاستهلاك الدّاخلي الذي يمثّل محرّكا من المحرّكات الأساسية للدورة الاقتصادية.
إنّ الدور الاجتماعي للدولة يهدف إلى توفير السلم الاجتماعي لأنّ رأس المال الخاص مثلما بيّنه المشكّكون- لا يفكّر إلاّ في مصلحته الخاصة بالمعنى الضيّق جدّا.
لقد قدّمت الجبهة مشروعها للشعب التونسي ولكنّ هذا المشروع الذي يبرز توجّه ورؤية الجبهة الاقتصادية والاجتماعية لا يمكن تطبيقه إلاّ في ظلّ حكومة جريئة وطنيّة التّوجّه تؤمن بقدرات الشعب التونسي وتدافع عنه وعن استقلال الوطن.