بقلم عبد المومن بلعانس
اليوم وبعد رحيل حكومة “الترويكا الثانية” دخلت بلادنا طورا جديدا قوامه مواجهة التّركة الثقيلة التي خلّفتها في ظلّ تفشّي الإرهاب وانهيار الاقتصاد وغلاء المعيشة وتدهور المقدرة الشرائية وعودة رموز التجمّع المنحل للبروز من جديد وفي ظلّ حكومة مرتبكة تتجاذبها شتى الضغوطات، ضغوطات الرباعي الراعي للحوار الوطني والمعارضة وحركة النهضة الخارجة للتوّ من الحكومة والحركة الاجتماعية التي لم تهدأ والحراك الشعبي المتواصل والقوى الخارجية التي ماانفكت تحشر أنفها في أوضاعنا الداخلية خدمة لمصالحها.
الجبهة الشعبية والانتخابات القادمة
لقد بدأت مختلف القوى السياسية استعداداتها للانتخابات القادمة. فحركة النهضة تسعى إلى ضمان عودتها إلى الحكم من الباب الكبير وفرض مشروعها الاستبدادي من جديد، والقوى الثورية والديمقراطية تسعى إلى سدّ الباب أمام عودة الاستبداد مهما كان نوعه والغلاف الذى يتغلّف به ووضع البلاد على سكّة الديمقراطية الشعبية في اتجاه تحقيق أهداف الثورة. أنها معركة شاقة ومعقّدة وليس من اليسير إدارتها بنجاح. وفي هذا الإطار تندرج أهمية العمل المشترك والعمل على عزل العدو الأخطر والسّعي إلى إقامة أوسع تحالف سياسي وأوسع جبهة انتخابية. ولكن إلى أيّ مدى توفّرت الظروف الملائمة لإقامة مثل هذا التّحالف ومثل هذه الجبهة؟
إننا لا نعتقد أنه يوجد في الواقع اليوم ما يكفي لإنجاح هذا المسعى نظرا لأهمية الاختلافات بين مختلف القوى المعنيّة على الساحة السياسية سواء فيما يتعلق بالبرنامج أو بتحديد الأولويات وتقدير المخاطر. وممّا يزيد الأوضاع تعقيدا هو الدّور الذي تلعبه المراكز المشبوهة لسبر الآراء واستطلاع الرأي التي احترفت الكذب والمغالطة لإيهام الرأي العام بأنّ مسألة نتائج الانتخابات القادمة محسومة من الآن ولا فائدة تُرجى من وراء أيّ عمل أو اجتهاد في هذا المجال وما على مختلف القوى إلاّ أن ترضى بنصيبها ولا تطلب أكثر.
وفي ظلّ مثل هذه الأوضاع لا يَسَعُ الجبهة الشعبيّة إلاّ أن تتوجّه إلى إعداد نفسها لخوض الانتخابات المقبلة بقائماتها الخاصّة على قاعدة برنامج سياسي واقتصادي واجتماعي واضح المعالم يميّزها ويزيد في مصداقيتها وتأثيرها على أرض الواقع بعيدا عن المزايدات والأوهام. فلا أحد يرفض الوحدة ويريد التشتّت والانقسام، ولكنّ الرغبة شيء والواقع شيء آخر ولكلّ ظرف متطلّباته ولكلّ هدف شروط تحقيقه.
إعادة تنشيط جبهة الإنقاذ
إنّ عدم توفّر الظروف الملائمة للجبهة الإنتخابية الواسعة لا يعني بالمرّة عدم إمكانية إعادة تنشيط جبهة الإنقاذ ولكنّ ذلك لا يمكن أن يتمّ إلاّ على قاعدة تقييم تجربتها وما تحقّق في ظلّها من مكاسب وما ينتظرها من مهام. فقد سقط مشروع دستور1 جوان وسقطت حكومة حركة النهضة الثانية بقيادة علي العريض وتمّت المصادقة على دستور 26 جانفي وتشكيل حكومة جديدة، إلاّ أنّنا مازلنا في حاجة أكيدة إلى مواصلة الجهد من أجل فرض تطبيق ما ورد في خارطة الطريق وتوفير الظروف الملائمة لانتخابات ديمقراطية نزيهة وشفافة لا تعيد حركة النهضة ولا رموز النظام القديم إلى الحكم. وفي هذا الإطار، مازال ينتظرنا عمل كبير في علاقة بالقانون الانتخابي وحلّ الميليشيات وتحييد المساجد والكشف عن خفايا ملفّ الاغتيالات تخطيطا وتمويلا وأمرا وتنفيذا، ومراجعة التعيينات وتحديد موعد الانتخابات وفصل الانتخابات الرئاسية عن التشريعية إلخ… وهي أهداف تجمعنا في الجبهة الشعبية مع كافة أطراف جبهة الإنقاذ وغيرها، ومن شأن النضال المشترك من أجلها أن يدعم اللُّحمة والثقة بيننا ويدفع بنا إلى مزيد تنسيق الجهود والتّضامن في علاقة بالعملية الانتخابية (الحملة الانتخابية، المال الفاسد، مراقبة مكاتب الاقتراع…).
إنّنا في حاجة أكيدة إلى تواصل عزلة حركة النهضة وتعميقها، وبالمقابل ربط الصلة مع كافة الحلفاء الفعليّين والمحتملين حسب الظروف والملابسات. هذه الصلة التي تتراوح بين التقاطع الميداني والتنسيق الانتخابي والقوائم الانتخابية والتي نحن في حاجة إليها الآن قبل الانتخابات القادمة وأثناءها وبعدها مهما كانت الطريقة التي سنتقدّم بها والنتائج التي ستسفر عنها. وفي هذا المجال، تطرح كيفية التعامل في الدورة الثانية للانتخابات الرئاسية وكيفية التعامل داخل مجلس نواب الشعب وفي علاقة بتشكيل الحكومة وبرنامجها. فمهما كانت الخلافات التي بيننا اليوم والتي ستوجد غدا وخاصة في المجالين الاقتصادي والاجتماعي. إنّ العمل المشترك لا ينفي الاختلاف ولا ينفي العمل المستقلّ في علاقة بالقضايا الخلافية. لا يجب الخلط بين الرئيسي والثانوي، بين الأخطر والأقل خطورة، بين من هو اليوم في مواجهتك ومن سيواجهك في الفترة القادمة. إنّ كلّ خلط في هذا المجال سوف لن يؤدّي إلاّ إلى إضعافنا وتشتيت قوانا وبالتالي تقوية أعدائنا وتدعيم لحمتهم ضدّنا. ومهما يكن من أمر، فمن الطبيعي أن تؤدّي الأهداف المشتركة ووجود عدو مباشر يعوق الوصول إلى تلك الأهداف إلى عمل مشترك منظّم ومبرمج علينا أن نجد الصيغ الملائمة لتجسيده وتفعليه مهما كانت تلك الصيغ شريطة أن تكون الأنجع والأكثر فاعلية.
عودة إلى الجبهة الانتخابية الواسعة
إنّ الجبهة الانتخابية الواسعة قد تصبح مطروحة للإنجاز العملي إذا اقتنعت مختلف الأطراف الديمقراطية بذلك. فتجاوز بعضها المراهنة على آلة التجمّع القديمة وتجاوز بعضها الآخر المصلحة الحزبية الضيّقة وتمّ التقدّم في اتّجاه وضع ترتيبات الحكم لما بعد الانتخابات القادمة بعيدا عن كلّ محاصصة حزبية باعتبار الهاجس الأول والأخير يبقى البرنامج الذي يضمن الديمقراطية ومصلحة الشعب والوطن ويقطع الطريق بصفة نهائية أمام عودة الاستبداد مهما كان الغلاف الذي يتغلّف به. وإن كانت الظروف غير جاهزة اليوم لمثل هذا الاتفاق، فإنّ ذلك ليس بمستحيل خاصة وأنّ تهديدات جديدة تهدّد الأخضر واليابس (اغتيالات جديدة، تفجيرات، اختطاف رهائن، عودة رموز النظام القديم بعنجهيّة وصلف مستفزّين للشعب التونسي…) ما انفكّت تتراءى بكلّ وضوح.
إنّ الانعزالية والمكابرة والغرور لا يمكن إلاّ أن يزيد في المخاطر المحدقة بالثورة التي يتكالب عليها الأعداء من كلّ حدب وصوب داخليّا وخارجيّا من أجل إجهاضها بالكامل والعودة بها إلى الوراء. إنّ ميزان القوى – محليّا وإقليميّا ودوليّا – ليس كما نريد وكما تريد القوى الثورية في بلادنا، وفي مثل هذه الأوضاع، يُعَدّ التخلّي عن أيّ حليف مهما كان محدودا ومتردّدا وغير مستقرّ خطأ جسيما قد يعصف بكلّ المكتسبات التي تمّ تحقيقها إلى حدّ الآن باعتباره لن يزيد إلاّ في صبّ الماء في طاحونة القوى الرجعية المتكالبة على الثورة حتى وإن تغلّف ذلك بالثوريّة والنقاوة التي قد تكون مثيرة للإعجاب ولكن أيضا مثيرة للشفقة باعتبار نتائجها الكارثية على أصحابها أوّلا وبالذات.
الاستعداد لكلّ الاحتمالات
وممّا لا شكّ فيه أنّ عملنا في اتّجاه الوحدة لا ينفي ضرورة استعدادنا لكلّ الاحتمالات الأخرى بما في ذلك إمكانيّة نجاح المؤامرات التي تحاك في شأن الجبهة الشعبية لتقسيمها وإضعافها بشكل أو بآخر حتى نحدّ من الخسائر التي قد تترتّب عن ذلك ونعكس الهجوم بالسرعة والنجاعة المطلوبتين. إنها معركة حقيقية، معلنة وخفيّة، علينا إدارتها بنجاح مهما كانت الصعوبات التي قد تعترضنا. في هذا الطور من تقدّم الثورة. وفي كلّ الحالات، لا شيء أخطر على القوى الثورية من تشتّتها وتفكّكها ومن عزلتها عن حلفائها الطبيعيّين من قوى مدنية وديمقراطية في ظلّ ضعف انغراسها في صفوف الجماهير الشعبية ومحدوديّة قدرتها على كسب ما يكفي من ثقتها ودعمها لخوض اللاّحق من معارك سياسيّة وانتخابية في اتّجاه تكريس شعارات الثورة وتحقيق أهدافها.
إنّ الوحدة المنشودة يفرضها الواقع الموضوعي وصعوبة الظرف ودقّة المهام المطروحة بعيدا عن كلّ مزايدة ومغانم ظرفية لهذا الطرف أو ذاك في ظلّ الرغبة الصادقة لدى عديد المناضلين في توحيد الصفوف من أجل هزم الثورة المضادة وردّها على أعقابها، إلاّ أنّ لكل عمل مستلزماته والظروف المساعدة على إنجاحه دون السقوط في الإرادية وإحلال الرّغبات محلّ الواقع. ولكن ومهما يكن من أمر، فمن الأهميّة بمكان ألاّ نكون نحن من يتحمّل المسؤولية في تشتيت الطاقات وفسح المجال أمام عودة قوى الاستبداد وتثبيت أقدامها في الحكم ممّا سيساعدنا – في حال فُرض علينا ذلك – على النهوض واستنهاض الحركة وعكس الهجوم بالسّرعة المطلوبة. وهنا يُطرح أمامنا عمل جبّار دفاعا عن الوحدة بين مختلف مكوّنات المعارضة الدّيمقراطيّة والمدنيّة، كلّما وُجدت الأرضيّة المشتركة، وبذل أكثر ما يمكن من جهد لتهيئة الظروف لذلك.