الرئيسية /
أقلام /
جائحة الكورونا: فيما يقاوم الباحثون التونسيون، وزارة التعليم العالي تدسّ رأسها في الرمل
جائحة الكورونا: فيما يقاوم الباحثون التونسيون، وزارة التعليم العالي تدسّ رأسها في الرمل
يعرف العالم اليوم جائحة صحية خطيرة تضع البشرية أمام تحديات عاجلة لعل أهمها هو احتواء مرض كوفيد-19 والحد من انتشاره، وإيجاد دواء و/أو لقاح فعال ضد فيروس كورونا المستجد. إن القيام بهذه المهام على أكمل وجه يتطلّب جاهزية قصوى لفرق البحث العلمي، خاصة تلك التي تحلّل المعطيات الإحصائية المتعلقة بتطور المرض، أو تلك التي تنكبّ على دراسة الفيروس الجديد مخبريّا وسريريا وتجرّب المركبات والأدوية التي قد تكون فعّالة ضده.
إن العالم اليوم يعوِّل حصرا على المجهود الطبي والعلمي لإيقاف هذه الجائحة، ويتابع باهتمام جديد الدراسات العلمية على الفيروس وما ينشر من محاكاة رياضية لوتيرة انتشار الوباء وما يعمم من نتائج تجارب الأقسام الطبية على أمصال وأدوية ممكنة. وفي معمعان هذا المجهود العالمي الجبار، يفتقد التونسيون منظومة البحث العلمي الوطنية التي لا تسمع لها همسا هذه الأيام، مع حفظ المبادرات الشخصية لهذا الفريق أو ذاك. وفي حقيقة الأمر فإننا لا نأتي بجديد حين نتحدث عن منظومة بحث طالت بها العطالة حتى استحالت طاردة للكفاءات وعبئا على الوطن
منظومة بحث مأزومة
تستحوذ وزارة التعليم العالي والبحث العلمي على قرابة 70 % من المخابر والوحدات العلمية (انظر دليل الهياكل والمشاريع البحثية 2017-2018)، تليها وزارتا الفلاحة ووزارة الصحة.
إن ما يطبع منظومة البحث العلمي في تونس (التابعة لوزارة التعليم العالي) هو تعدد وتضخم الهياكل المركزية المشرفة عليها (إدارة عامة للبحث العلمي، إدارة عامة لتثمين البحث، إدارة عامة لتعاون الدولي، وكالة وطنية لتشجيع البحث العلمي، لجنة وطنية للتقييم، وإضافة لهذه القائمة يوجد مجلسين استشاريين تحت رئاسة الحكومة، وإدارة بحث علمي بوزارة الصحة، وأخرى بوزارة الفلاحة، والأكاديميّة التونسية للعلوم والآداب تحت
إشراف وزارة الثقافة).
أما السّمة الثانية للبحث العلمي فهو ثقل هذه الشبكة الإدارية المفصّلة أعلاه وعدم التناسق بين مكوناتها، ممّا يؤكّد أن منظومة البحث العلمي تحولت إلى حلبة لاقتسام النفوذ السياسي في الدولة واستحالت جسدا عليلا لا قبل له بمجابهة ما تطرحه أزمة مثل جائحة كوفيد-19 على المجتمع من مهام حارقة.
أما عن الوضعية المادية لمخابرنا فإن أقل ما يمكن أن تتّصف به هو الفاقة والخصاصة، حيث خصصت وزارة التعليم العالي والبحث العلمي ما يقارب 135.065 مليون دينار للبحث العلمي في ميزانية 2019 وهو ما يمثل 8% فقط من الميزانية الجمليّة للوزارة أي 0.33% فقط من ميزانية الدولة لسنة 2019، أي أن نسبة الإِنفاق على البحث العلمي في تونس لا تتجاوز 0.1% من الناتج الداخلي الخام. لقد أدّى هذا التفقير الممنهج والمُخطّط له، إضافة إلى التفويت في توريد التجهيزات العلمية والمستحضرات المخبرية لصالح قطاع خاص طفيلي، إلى تدهور رصيد البحث العلمي من تقنيّين مختصّين ومدرّبين من وباحثين متفرّغين وأدّى إلى اهتراء البنية التحتية في مخابر البحث وضعف تجهيزها بل حتى سوء تصرف فيما وجد من تجهيزات علمية، مما أدى في آخر المطاف إلى تفقير طلبة الماجستير والدكتوراه، وإلى بطالة أكثر من 7000 دكتور، وإلى هجرة الكفاءات العلمية بمختلف شرائحها العمرية إلى أوروبا وكندا والخليج بحثا عن ظروف مُحفِّزة للإبداع وأسباب العيش الكريم، بعيدا عن حطام منظومة للبحث العلمي تُقبِر أحلامهم وتستنزف جهدهم.
إن هذه المنظومة لم تنخرط إلى اليوم لا في المجهود العالمي لاختبار أدوية معروفة لعلاج مرض كوفيد-19، ولا حتى في رصد إمكانياتها البحثية لدراسة فيروس كورونا المستجدّ والتعرّف على نوعيّاته التي تنتشر حاليا في تونس ودراسة إمكانيات حدوث طفرات جينيّة لها، خاصة وأن الفيروسات تتأثّر بشكل سريع بالبيئة التي توجد فيها (إمكانية حدوث طفرات جينيّة خاصة ببيئتنا الجنوب متوسّطية). بل إنها لم تنجح في ربط التعاون بين مؤسسات البحث التابعة لوزارة الصحة ووزارة البحث العلمي للتنسيق لإجراء التحاليل المخبرية لمشتبهين بحمل الفيروس ولتجنيد الفِرق البحثية في الرياضيات التطبيقية لدراسة الحالة الوبائية إحصائيا ولمحاكات نجاعة القرارات المتّخذة قبل المصادقة عليها. وليس أدلّ على إِفلاس هذه المنظومة العلمية هو التخبّط الذي حدث في علاقة بدواء الكلوروكين والتّنازع الذي برز بين الوزير والمجامع العلمية الطبية (“المتسيّسة”) للاستحواذ على شرف الهرولة نحو اعتماد دواءٍ لا يزال تحت الاختبار السريري. إن التفسير الوحيد لهذا العجز الهيكلي هو غياب الإرادة والجرأة السياسية لإصلاح منظومة البحث والحدّ من التبعية العلمية.
الباحثون يقاومون والوزارة تدس رأسها في الرمل
رغم التعطل الهيكلي الذي تعاني منه منظومة البحث العلمي التونسية وتردّي بنيتها التحتية، فإن عديد الباحثين التونسيين في الداخل والخارج سارعوا بإعلان تطوّعهم للعمل ووضع خِبراتهم البحثيّة لمقاومة تفشّي الوباء (التحاليل المخبرية، التجارب المخبرية، تصنيع وسائل الوقاية، صياغة المقاربات الوقائية)، بل بادر جزء منهم بإيجاد حلول للإشكاليات التقنية والعلمية التي برزت مع انتشار هذا الوباء في تونس، حيث نجح مهندسون في مدرسة الهندسة بسوسة بالتوازي مع زملائهم في مدرسة المهندسين بقرطاج في تصنيع واقيات للوجه للاستعمال الطبّي بالوسائل الخاصة لمخابرهم، كما نجح الباحثون في معد الدراسات التكنولوجية بسوسة في تطوير نظام تعقيم للفضاءات بالبخار، وأنشأت جمعية البحث العلمي والابتكار في الإعلامية بالتعاون مع كلية الطب بسوسة تطبيقا إعلاميا لمتابعة الحالة الصحية للحاملين للفيروس عن بعد، وصنع مهندسون في مدرسة الهندسة بصفاقس أجهزة تستعمل في عملية التنفس الاصطناعي، كما وظّف فريق في كلية العلوم في قفصة إمكانياته المخبريّة لتصنيع مواد تطهير للاستعمال الجهوي وبادر فريق آخر من كلية العلوم بتونس بنفس الشيء، وتطوّع فريق من المهندسين في جهة المنستير لإصلاح التجهيزات الطبيّة المستعملة في الإنعاش الطبي، كما انكبّ فريق مخبر الرياضيات والإحصاء والإعلامية المطبقة على البيولوجيا بمعهد باستور بتونس على دراسة تطور الحالة الوبائية واستشراف آفاق تطوره بناء على فرضيات متعددة تحاكي الواقع التونس.
ومع تعدّد هذه المبادرات وما مثله ذلك من إحراج لوزارة التعليم العالي، تحرّكت هذه الأخيرة وأصدرت منشورا وزاريا أواخر مارس يعلن عن “فتح طلب عروض لتمويل مشاريع بحث مشتركة بين المخابر” (PRF) لتحفيز البحث العلمي المنخرط في مجابهة أزمة الكورونا (حسب مقتضيات القانون المنظم لذلك 644-2009 المؤرخ في 2 مارس 2009). إن هذا القرار ما هو إلا هروب إلى الأمام وتمويه على تخاذل الوزارة في هذا الظرف. إن الظروف الاستثنائية تتطلّب قرارات سياسية جريئة بوضع الإمكانيات البحثية (للقطاع العام والقطاع التجاري الخاص) ورصد اعتمادات مالية هامة لتجهيز مخابرنا العلمية للقيام التحليل المخبري المكثّف ولتمويل مشاريع بحث محدّدة (مثلا تطوير أساليب التحليل ودراسة الوباء احصائيا وتطوير مقاربات محلية لمجابهته وإجراء الاختبارات السريرية ودراسة نوعيّات الفيروس المنتشرة في تونس ودراسة المناعة الجماعية)، وإن كل ذلك لا يتحقّق إلا باتّباع مقاربة سريعة وناجعة (ماليا وماديا) يمكن أن تصل حدّ تسخير المخابر وما في حوزة تجّار المستلزمات العلمية من مخزون مستحضرات لمحاور البحثية الحارقة. أما الإعلان عن طلب عروض وفق الصّيغ البيروقراطية الثقيلة واشتراط إقحام شركاء من القطاع الخاص (المتخاذل أصلا في زمن السّلم فما بالك بزمن الحرب) وتشكيل لجان فرز وتقييم المشاريع لننتهي في الأخير لتشتيت الميزانية الضّعيفة على عدد من المشاريع، فما هو إلّا دّس للرأس في الرمال.
إن سلطة الإشراف، بإصدارها هذا المنشور وبتجاهلها للنداءات الحارقة للتطوّع ولتسخير الإمكانيات لصالح البحث الموجّه لمقاومة الوباء، تضع نفسها خارج التاريخ والجغرافيا، وتطرق كل أبواب التنصّل من مسؤولياتها، وتثبت عجزها السياسي والمعرفي عن إدارة الأزمة، وتخسر بالغياب في الحرب التي فرضها علينا هذا الوباء.
خلاصة
إن أزمة وباء كوفيد-19 لم تعرِّ فقط قصور المرفق الصحّي في تونس، بل كشفت للمجتمع العجز الكلّي لمنظومة البحث العلمي، وانعدام الإبداع والجرأة السياسيّة لدى وزارة التعليم العالي والبحث العلمي. لكن كما تجنّد الإطار الطبّي والشّبه الطبي لمجابهة الوباء رغم قلة الإمكانيات، فإنّ عددا كبيرا من الباحثين التونسيّين والدكاترة الباحثين المعطّلين رفعوا لواء المقاومة والتطوّع للمساهمة في التصدّي للوباء، وبادر جزء منهم في التحرّك فرديا وجماعيّا لاقتراح حلول تقنية ومقاربات علمية.
إن من واجب الباحثين والدكاترة الباحثين المعطّلين اليوم المواصلة في مجهوداتهم الفرديّة والجماعية لمقاومة هذا الوباء حتّى من خارج منظومة البحث العلمي المتهالكة، وذلك عبر التّشبيك ونشر آرائهم بعد تداولها فيما بينهم ضبطا للمنهجية وحرصا على الراهنيّة العلمية. كما عليهم الاستعداد غدا للتمرّد على منظومة البحث البالية والتي لم تصلح إلا لتقاسم النفوذ بين أحزاب الحكم وأذنابهم فيها، وهذا لن يتم دون التفكير الجماعي في بديل للبحث العلمي يلبي الأولويّات الوطنية في كل المجالات، فما جائحة كورونا إلا معركة أولى ستليها معارك أخرى أهمها حسب رأينا النهوض الاقتصادي فلاحة وتصنيعا، والانعتاق الاجتماعي ومجابهة تأثيرات التغيّر المناخي.
عن “مجموعة البحث العلمي لحزب العمال”
الدكتور زياد بن عبد الجليل
2020-04-09
إلى الأعلى