بقلم يوسف شاذلي باحث في الفلسفة الأخلاقية والسياسيّة
يبدو جليّا للجميع أنّ الأزمة الاقتصاديّة والاجتماعية التي تعيشها تونس، والناجمة عن سياسات الإصلاح الهيكلي التي تسارعت وتيرة تطبيقها مُنذ رحيل بن علي، قد تفاقمت أكثر بعد انتشار الوباء العالمي “كورونا”.
ولم يكُن تعمّق هذه الأزمة غير سياق جديد للدعوة مُجدّدا إلى “الوحدة الوطنيّة”. شعار يتكرّر مُنذ أمدٍ ليس بالقصير على لسان الحاكمين من السياسيين ورجال الأعمال، وقد جاء في صيغة “الوحدة القومية” على لسان بورقيبة وفي صيغة “الميثاق الوطني” غداة 7 نوفمبر 1987، كما تردّد في صيغته الجديدة أكثر من مرّة على لسان الباجي قايد السبسي وراشد الغنوشي وعلي العريّض والمهدي جمعة ويوسف الشاهد وقيس سعيّد وإلياس الفخفاخ، كما على لسان وداد بوشماوي وسمير الماجول.
وأكّدت كافة بيانات الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة الصادرة مؤخّرا على هذا الشعار، حيث جاء في بيان 23 مارس إثر لقاء رؤساء المنظمات الوطنيّة برئيس الحكومة ما يلي: “وأكّد رئيس الحكومة بالمناسبة على أهمية تكثيف التشاور مع المنظمات الوطنية في هذه المرحلة الدقيقة التي تمرّ بها البلاد لمواجهة التداعيات الصحية والاجتماعية والاقتصادية لفيروس كورونا وعلى تكريس الوحدة الوطنية وإعطاء الأولوية للمحافظة على الأمن الصحي للتونسيين والحد من تداعيات هذا الوباء على بلادنا”. أما في بيان 28 مارس المُعنْون بـ”بيان الالتزام بمواصلة الدفاع على القطاع الخاص ورفض قاطع لأيّ مساس بمبادئ الملكية الخاصة” فجاء في نُقطته الأولى “يشدد الاتحاد على أهمّية الوحدة الوطنية، وعلى أن تونس بكل مكوناتها مطالبة بأن تكون متضامنة وموحدة لمواجهة هذه الأوضاع”. وفي بيان 2 أفريل فجاء في النُقطة الثامنة ما يلي “ويدعو إلى الترفّع عن الاتهامات والمزايدات لأنّ تونس بأشدّ الحاجة إلى الوحدة الوطنيّة والتجنّد صفّا واحدا لمواجهة فيروس كورونا”.
رُبّما سيحتاج جمْع كافة التصريحات والبيانات التي أكّدت على نفس الشعار مُجلّدا توثيقيّا، لهذا سأكتفي بهذه الأمثلة الثلاث، وذلك لسببين رئيسيّن: أوّلا لارتباطها مُباشرة بسياق الأزمة الصحيّة، وثانيا لأنّها كاشفة بشكل واضح عن المضمون الطبقي لهذا الشعار (وهو ما سآتي على تبيانه لاحقا).
يظهر شعار “الوحدة الوطنيّة” خلال الأزمات الكُبرى على اختلاف طبائعها (سياسيّة، اقتصادية، الخ…)، ويُلْقَى به كُلّ مرّة في وجه الناس باعتباره الحلّ السّحري الذي سيُخرج البلاد من الأزمة. ولكن ما الذي يعنيه هذا الشعار بالتحديد؟ إنّه يعني أنّ على الجميع التزام موقفٍ واحدٍ من قضيّة ما (موضوع الأزمة). وبغضّ النظر عن أنّ هذا الشعار يُحِيل ضمنيّا إلى رغبةٍ في إنكار أهمّ الحقوق الأساسيّة للبشر، وهي حقوقهم في التفكير والتّعبير والاختلاف، فإنّ “الوحدة الوطنيّة” تعمل من خلال آليّة فرز عاطفيّة تجعل من كُلّ من يخالف حامل لواءها “خارجا عن الصفّ الوطني” وبالتالي خائنا للوطن، ويستحقّ كُلّ ما قد يُقرّره رافعو شعار “الوحدة” هذا من عقوبات.
إنّ من يلوّح بهذا الشعار كورقة سياسيّة كأنّما يقول “هناك موقف واحد تُجاه هذه القضيّة وهو وحده الكفيل بحلّها”، ولكّنه لا يُخبرنا: “موقف من هذا؟”، لأنّ دور كلمة “وطنيّة” في الشعار هو أن يجعل من هذا الموقف موقف “الوطن” بأكمله، ويعيدنا إلى حالة الفرز المذكورة أعلاه. لكن الجمباز السياسي/البلاغي شيء، والواقع شيء ثانٍ مخالفٌ تماما.
علينا أن نتنبّه أولا إلى حقيقة أنّ هذا الشعار لا يصدر إلاّ عمّن هُم في موقع القرار (السياسي والاقتصادي)، ويردّدونه لتمرير مواقف لا يُمكن لها أن تكون محلّ إجماعٍ، بالتالي بدل أن يقولوا “هذا موقفنا كسُلطة” (بغضّ النظر عن طبيعة هذه السُلطة)، يقولون “هذا موقف الوطن”، فمن منكم يريد معارضة “الوطن”؟ وبيان 28 مارس المذكور أعلاه دليل جيّد على مثل هذا الجمباز البلاغي، حيث أنّ موقف “الرفض القاطع لأيّ مساس بمبادئ الملكية الخاصة” الذي جاء في سياق الردّ على دعوات مُجتمعيّة لتسخير المصحّات الخاصّة ومصانع الأدوية والملابس لتوفير مُستلزمات مجابهة الجائحة، وعلى خطاب رئيس الجمهورية بتاريخ 31 مارس الذي فُهِم خطأ أنّه يدعو إلى مصادرة بعض أملاك رجال الأعمال (وهو ما نفاه في بلاغ توضيحيّ في نفس اليوم)، كان يستوجب أن تكون أوّل نقطة فيه هي التأكيد على “الوحدة الوطنية”. استهلال بهلواني مفهوم من قِبل السيّد سمير الماجول، غايته أن يجعل وجهة نظر جزء من مُنظّمته في مصاف “الموقف الوطني” الذي يُخرج معارضيه من “الصفّ الوطني”.
إنّ شعار الوحدة الوطنيّة الذي يُشدّد على أهميته بيان منظّمة الأعراف في هذا السّياق، إنّما يُلوَّح به باعتباره الحلّ الوحيد المُمكن لحلّ أزمة الكورونا، ولكن الواقع يقول أنّ مواقفهم هذه إنّما تزيد من آثار هذه الأزمة وتعمّقها في وطننا. أقول وطننا، ونون الجماعة هنا لا تجمع هؤلاء معنا لأنّنا عمليّا لا نعيش في نفس الوطن، وإن كُنّا نعيش في نفس المجال الجغراسياسي. هم يحاولون أن يقنعونا أن ننظر إلى هذا المجال بنفس المنظار الذي ينظرون به، لكن هل يمكن للسّجين والسجّان أن ينظرا إلى السّجن بنفس الطريقة؟ هل يُمكن أن ينظر من يقف ساعاتٍ في انتظار منحةٍ بمائتي دينار بعد أن أحاله صاحب العمل على “البطالة التقنية”، إلى الوطن، بنفس منظار رؤوس الأموال الذين لا يتورّعون عن استغلال الأزمة لمضاعفة أرباحهم ومراكمة رأس المال ويمارسون لتحقيق غاياتهم ما تُنكره كافّة أنواع الأخلاق (ما عدا أخلاق المنفعة التي يتبنّاها هؤلاء) من احتكار ومضاربة. هل يُمكن أن يكون هُناك “وحدة وطنيّة” بين من يطلب من مُصابي الكورونا 3 آلاف دينار كمقابل لليلة واحدة في مصحّة خاصّة (أصحاب المصحّات)، وبين من يعتبر مائتي دينار مبلغا يستحقّ أن يخاطر من أجله الإنسان بحياته وهو يقف في طوابير الموت (أمام مكاتب البريد) التي لن نعرف عدد ضحاياها إلاّ في المستقبل القريب؟ هذه مُجرّد أمثلة على حدّة التّباينات بين وطننا ووطنهم، وللقارئ أن يستحضر تباينات أخرى لا يتّسع لها المجال هنا.
إنّ أيّ دعوة للوحدة الوطنيّة هي في نهاية المطاف دعوة للتخلّي عن موقعنا الطّبقي لكي نرى “الوطن” بمنظارٍ ليس لنا، وهو ما يعني إخضاعنا لقبول سياساتهم الطبقية. وهي أيضا دعوة لأن نضحّي أكثر حتّى يستفيدوا هُم أكثر، فيزيد وطننا فقرا وبؤسا وموتا، ويزيد وطنهم ثراء وأبّهة ونموّا. لهذا علينا أن نواجه دعوات “الوحدة الوطنيّة” بدعوات “الوحدة الشعبيّة” حيث تكون الطبقات الشعبيّة موحّدة في مواجهة هؤلاء ووطنهم الذي يعيش من موت وطننا، وموحّدة كذلك في مواجهة “الوحدة الوطنيّة” بالذّات. وفي كُلّ يوم يزداد الشعب يقينا أنّهم المسؤولون الحقيقيّون عن هذا الوضع، وأنّنا من يدفع ثمن خياراتهم وتوجّهاتهم، وما “أزمة الكورونا” إلاّ فرصة جديدة لنا كي نفهم أكثر حجم المأساة التي يدفعوننا إليها دفعا، وأن نعمل على قلب ميزان القوى، حتّى تُصبح إمكانيّة أن نعيش نحن وهُم في “نفس الوطن” قائمة.