بقلم علي الجلولي
انتهينا في الحلقة الفارطة إلى أنّ الإرهاب ظاهرة معقّدة ومركّبة، له تجلّيات وأشكال وتمظهرات متعدّدة، وهو ظاهرة عابرة للبلدان والقارات، تتقاطع فيه مصالح عديد الأطراف والجهات دولا ومؤسّسات وتنظيمات سياسيّة أو عقائديّة وعصابات الجريمة والتهريب..، ولئن ثبتت صعوبة الاتّفاق على تعريف موحّد للإرهاب – وهذا منطقي وموضوعي ويطال كلّ المفاهيم – فإننا يمكن أن نعتمد تعريفه باعتباره كلّ أشكال العنف المنظّم، المادي وغيره الذي يهدف إلى تكريس وتحقيق أهداف رجعية معادية لتطلّعات الطبقة العاملة والشعب عموما، ويجنح إلى توظيف الخلفيّات الدّينية أو العرقية أو الثقافية بمنظور متعصّب يشكّل أساسا لعنف مادّي أو معنوي سافر.
حول معالجة الإرهاب
يسود اليوم في بلادنا ومنطقتنا وفي العالم نوع من المقاربة لمعالجة الإرهاب، هذه المقاربة تجنح إلى إبراز ضرورة وأهمّيّة المعالجة الأمنية باعتبارها المعالجة الحاسمة في القضاء على الإرهاب. ومع إقرارنا بضرورة هذه المعالجة، فإنّنا نعتبر أنّ الاقتصار عليها واعتبارها هي من سيحسم المعركة ضدّ الإرهاب يسقطنا في مقاربة قاصرة وأحادية، بل من شأن الاكتفاء بها أن يعطي نتائج عكسية وهذا ما أثبتته تجربة عديد البلدان بما فيها تونس. على أنه يجب التّشديد على كون التّعاطي الأمني مع موضوع الإرهاب يجب أن تتوفّر فيه شروط أساسيّة كي يكون ناجعا، على أنّ هذه النجاعة لن تكون مضمونة إلاّ بالتظافر مع معالجة استراتيجية/ طويلة المدى تشمل ضرب أسس الإرهاب الموجودة في الواقع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي المحلي والاقليمي والدولي، وأيضا في الثقافة والبنية النفسية التي تشكّلت تاريخيّا وحضاريّا في علاقة مع الحاضن الدّيني الإسلامي/ المقدّس، الذي يوظّف اليوم لتبرير الإرهاب، وحتى لادّعاء مقاومته.
في شروط المعالجة الأمنيّة
دخلت بلادنا طورا هامّا في الصراع مع الإرهاب والمجموعات الظّلاميّة المسلّحة، وإن حقّقت المؤسّستان الأمنيّة والعسكريّة نجاحات هامّة، فإنّها أيضا أخفقت عديد المرات في التصدّي للإرهاب. هذا الإخفاق يعود إلى عدّة أسباب لعلّ أهمّها تقيّد وخضوع القرار الأمني إلى قرار سياسي، وهذا عطّل أكثر من مرّة سرعة التدخل ونجاعته، ويرتبط الأمر خاصة مع تجربة حكم الترويكا بقيادة حركة النهضة، بمساعي هذه الأخيرة لوضع يدها على مفاصل القرار الأمني الذي أصبح مرتهنا في مستوى قيادته العليا بما فيها وزارة الداخلية ورئاسة الحكومة إلى إرادة هذه الحركة التي يعلم الجميع تقاطعاتها مع المجموعات العنفيّة، من هذه الزاوية فإنّ تحرير القرار الأمني مركزيّا وجهويّا وتطهيره من التّوظيف الحزبي هو خطوة أساسيّة في تأهيل المؤسّسة الأمنيّة، والتّأهيل لا معنى له خارج اعتماد معايير الكفاءة المهنيّة والصناعيّة التي تستثني أيضا الإطارات الأمنيّة لبن علي المتورّطة في التّعذيب وخدمة النّظام الدّكتاتوري. ولإعطاء بعد مؤسّساتي للسّياسة الأمنيّة عموما ولمعالجة الارهاب والتهديدات الداخلية والخارجية لابدّ من بعث مجلس الأمن الوطني كإطار قيادي يتشكّل من ممثّلي المؤسسة الأمنية والعسكرية والديوانة وبحضور القضاء حتى تحتكم السياسة الأمنية إلى سند قانوني وضمانات حقوقية لا يمسّها الطعن بما يعزّز العمل الأمني ويبعده عن شبهة تجاوز القانون أو المسّ من حقوق الإنسان.
إنّ مجلس الأمن الوطني هو الجهة المخوّلة لوضع وتنفيذ الخطط الأمنية، وحتى يتوفّق في ذلك يجب أن يتوفّر لديه استقلالية القرار وأيضا الإمكانيات المادية واللوجستية والبشرية اللاّزمة لممارسة المهام، وهذا يقتضي بعث ما يلزم من هياكل مختصّة (المخابرات، حماية الحدود…). كلّ ذلك في إطار احتكام المقاربة الأمنية إلى عقيدة أمنيّة جديدة تتقيّد بالقانون ومبادئ حقوق الإنسان وتهدف إلى خدمة الوطن والمواطن، علما وأنّ غرس هذه العقيدة يتطلب إعادة تكوين الأعوان والإطارات المباشرة والجديدة على أسس علمية وقانونية وحقوقية بما يعزّز بعث الأمن والجيش الجمهوريان، ويتمّ ذلك بالشّراكة مع المجتمع المدني.
إنّ خلق هذه الشروط من شأنه أن يؤهّل المؤسّسة الأمنية والعسكرية كي تقوم بدورها بأكثر فعالية ونجاعة، وأنّ تعاطيها المؤسّساتي والقانوني يوحّد المجتمع حولها وتتحوّل المعركة مع الإرهاب إلى معركة الشعب والمجتمع. إنّ تكريس هذا التوجّه يشترط فتح حوار وطني يشارك فيه الجميع أحزابا وجمعيات ونقابات وأمنيين وعسكريين وخبراء، على أنّ المعالجة الأمنية يجب النظر إليها باعتبارها مجرّد جزء قد يكون يسيرا، فتأهيل المؤسّسات يتجاوز ذلك إلى إصلاح مؤسّسات أخرى كالقضاء الذي تعرّض إلى التخريب والتطويع في فترتي الدكتاتورية الدستورية والنهضوية، فالتنصيص على استقلاليته في الدستور هو خطوة هامة، لكن يجب إرفادها بإعادة تشكيل هذه السلطة بما يكرّس فعلا استقلاليتها ليس عن السلطة التنفيذية فقط، بل أيضا عن سلطة المال والأعمال، ونزاهة ونظافة أعضائها ومراجعة كلّ القوانين في اتجاه مقرطتها وخدمتها للشعب ومن بين هذه القوانين قانون الإرهاب الصادر في 10 ديسمبر 2003 والذي لا يحتوي على الضمانات اللاّزمة لذوي الشبهة. كما يجب أن يشمل الإصلاح باقي مؤسسات الدولة كمؤسسات التعليم والثقافة والشؤون الدينية، فضلا عن إجراءات اقتصادية واجتماعية عاجلة من شأنها أن تحاصر جيوب الإرهاب وأن تضرب شروط إنتاجه المادية، وهذا ما سنباشره في الحلقة القادمة.