” لقد جعل العلم منّا آلهة قبل أن نكون جديرين بإنسانيتنا”
(جون روستان )
لقد أعاد وباء الكوفيد 19 طرح اشكالية عميقة للإنسان المعاصر الذي اعتقد انه تخلص من عذابات الماضي وآهاته. هذا الإنسان الذي يبحث في سبل استكشاف المريخ وباقي الكواكب عاجز اليوم أمام بنية متناهية الصغر.إننا لا نبخس قدر الباحثين والاطباء الذين يفعلون ما بوسعهم وفي حدود ماهو متاح لهم. لكن المذنب اليوم هو النموذج (الباراديغم) الذي يسود العالم أو بمعنى أدقّ يسود عقل العالم. لقد وفّر العلم فوائض هامة من الإمكانيات والموارد ضمن منطق التّراكم والتّطور اللّا محدود ولكن هذا النموذج تغافل عمّا يمكن أن يُعيق تقدّمه وغفل عن النظر قليلا إلى الأسفل وإلى الوراء.
لقد كشف الوباء عن حجم الأزمة العالمية التي تعيشها البشرية في بدايات القرن 21. إنها أزمة منظومة تعبّر عن نفسها في كلّ مرة بأشكال جديدة لكن مضمونها نفسه.إن ما نراه اليوم هو نتيجة حتمية لأزمة الرأسمال العالمي التي عبّرت عن نفسها قبل انتشار الوباء عبر:
-صعود الموجات الشعبويّة الجديدة في أوروبا وأمريكا، وعدةّ بلدان أخرى، إلى سدّة الحكم.
-النزعة العالمية نحو الحرب عبر الاستفزازات الأمريكية لفنزويلا، إيران وكوريا الشمالية.
-الثورات المضادّة بالمناطق التي شهدت تحرّكات ذات بعد ثوري وجماهيري مثل تونس (صعود التيارات الدينية) ومصر (الانقلاب العسكري) وكذلك النزاعات المسلّحة باليمن وليبيا وكذلك سوريا.
في المقابل، لم تقف الشعوب مكتوفة الأيدي، إذ أنها حاولت التصدّي لتأثيرات هذه الأزمة عليها في أكثر من منطقة:
-في تونس، واصلت الجماهير تحرّكاتها الشعبية العفويّة مؤكّدة يأسها من الوصفات المقدّمة من طرف الحكومات المتعاقبة وكذلك عدم ثقتها في المشهد السياسي السّائد بالبلاد. (في مصر كذلك لكن بصفة أقل).
-اتساع رقعة التحركات الشعبية ضد السياسات والحكومات لتصل العراق، لبنان والجزائر.
-إصرار حركة السترات الصفر في فرنسا على مزيد توسيع دائرة احتجاجها بالإضافة لتحركات وإضرابات النقابات الفرنسية ضد مشروع القانون الجديد للتقاعد.
إنه وضع عالمي متأزم زاده انتشار الوباء في كشف تناقضاته وبروزها للعيان والتي تمثّلت في:
-التناقضات داخل مراكز المنظومة (بين أشكال الرأسمالية كما يحبذ البعض وصفها) والتي تتجلى في الصراع الأمريكي –الصيني.
-التناقض بين الرؤى الوحدوية والمشتركة والسياسات الحمائية والمنغلقة المتّبعة من الدول في التعامل مع آثار الوباء وقد تجلّى أساسا في عزوف الدول الأوروبية الغنية كفرنسا وألمانيا على تقديم يد المساعدة لإيطاليا التي تركت وحيدة تواجه الوباء المستفحل في أراضيها بل وتنتظر المساعدة من الصين وحتى كوبا.
إضافة لذلك، فقد كشف تفشي الوباء عن تهافت مقولة الجنة الموعودة بالغرب (أمريكا وأوروبا) حيث أن نسب الوفيات والتأثيرات الخطيرة للفيروس هي الأعلى في العالم. ورغم وجود تفسيرات موضوعية لذلك (التهرّم السكاني)، فإن ما أجمع عليه المتابعون هو معاناة القطاع الصحي بهذه البلدان رغم وفرة الامكانيات المعبر عنها بحجم النفقات العسكرية والإنفاق على مظاهر البذخ والرّفاهة. لقد عجزت منظومة الصحّة وصناعة الدواء عن إيقاف النّزيف لحدّ الآن ولكن لماذا؟ إنّ دولا تتجاوز نفقاتها العسكرية نفقات التنمية -أضعاف أضعاف – لا تستطيع أن تضمن للبشر حياة آمنة وتقف عاجزة أمام هذا الفيروس الذي يجسّم تلك العبارة الهندوسية “سأكون أنا الموت محطّم العوالم”.
ولقد كان العجز في إيجاد العقاقير التي يمكن أن تقلّص من التأثيرات الخطيرة لهذا الفيروس (رغم تنبه البعض خلال سنوات ماضية لإمكانية تفشي فيروس على المستوى العالمي 1ورغم أن منطقة شرق آسيا قد واجهت أوضاعا مماثلة في سنوات سابقة ولو بدرجة أقل ) نتيجة طبيعية لسلوك المخابر العالمية المختصة في صنع الأدوية التي أصبحت تنفق في الدعاية وشراء الأسهم أكثر ممّا تنفقه في البحث والتطوير2 المتروكة للمخابر العمومية (الحكومية) التي تصارع الآن لوحدها بإمكانيات جدّ محدودة بعد سنوات من الهجمة النيوليبرالية على كل ما هو عمومي لصالح القطاع الخاص الذي لا همَّ له سوى الرّبح ومزيد من الرّبح.
هذا القطاع الخاص يسعى رغم الوضع الوبائي العالمي لاستمرار ماكينة الإنتاج ويعبّر في كثير من البلدان عن عدم ارتياحه لتطبيق إجراءات الحجر الصحي المفروض وقد تمّ التعبير بوضوح عن ذلك خصوصا في بلدان الجنوب التي يتلكّأ القطاع الخاص المحلي أو الأجنبي في تطبيق الحجر الصحي للعمال مهددا بالتملص من الالتزام بصرف الجرايات3 (تونس كمثال). هذه الوضعية كشفت عن عمق الهوة بين عمال القطاع الخاص والقطاع العام التي زادت في تأزم الوضع الاجتماعي بهذه البلدان إضافة للوضع المتردي لسكان المناطق الريفية مقابل أهل الحواضر رغم أن الوباء لازال أقل حدَة فيها مما هو عليه في أمريكا وأوروبا: لعل الفيروس يستنكف من الانتشار رأفة بحالها.
إن عالما بهذا الشكل وهكذا نموذج يتحكّم فيه، لا يمكن أن يكون سوى جنّة لأقلّية محظوظة تنتظر “مناعة القطيع” لتتخلّص من كابوس الفيروس ولتعود لإنتاجها ولاستهلاكها كأن شيئا لم يكن. إنه عالم لا ينظر إلا للقطب الاكثر غنى ويتغاضى عن قطب آخر مازال تحت وطأة الجوع والفقر والمرض.
إن عالما آخر أصبح ضروريا لتجنّب المزيد من الويلات والآلام ولكن ما الذي يمكن فعله لكي يصبح ممكنا؟
الإجابة المفتاح هي: المقاومة…مقاومة الوباء …ومقاومة ما بعد الوباء…
إن كلمة السر هذه يتسلّح بها اليوم الذين عبروا ويعبّرون عن سخطهم لعالم منشطر إلى نصفين.. إنّ المقاومة تكتسي أهمّية بالغة في عالم ذي بعد واحد ومضمون واحد وأفق واحد ولكنه متعدّد الأشكال…عالم استطاع الكوفيد 19 أن يفضح ما بقي مستورا منه.
تنطلق المقاومة من التضامن الجماعي الطّوعي مع الفئات الهشّة والمحرومة – الهامش – وتتّسع لتشكّل شبكة من العلاقات بين البنى والتنظيمات والأفراد من أجل عالم جديد…يبدو الامر طوباويا لحدَ ما بالنسبة للكثيرين ولكن ليس أكثر طوباوية ممّا نحن فيه لو قدّر لأحد أن يتحدّث عنه شهر مضى…
إنّ المقاومة تستدعي التجاوز: تجاوز الممكن وتجاوز الواقع وتجاوز ما يمكن أن يكون مستقبلا…إن البشرية إمّا أن تجعل من هذه اللحظة فارقة أو تعتبرها أزمة عابرة في تاريخ أكثر أشكال الطّبيعة تعقيدا: الإنسان، تتبدّى له ككابوس للحظات ثم تعود لواقع يُثير السّخط لدى البعض والرّضا لدى البعض الآخر….
إن واقع اليوم يحتوي بذور فنائه وما على البشرية إلا المضيّ قدما لاستكشافها….
“إن البشرية لا تطرح على نفسها إلا تلك المسائل التي تقدر على حلها، تلك المسائل التي باتت شروط حلها متوافرة لأنه لو دققنا النظر لوجدنا ان المشكلة نفسها لا تظهر إلا عندما توجد أو تبدأ في الوجود الظّروف المادية الكفيلة بحلّها” (كارل ماركس)
https://www.babnet.net/rttdetail-201252.asp