بقلم محمد الهادي حمدة
إنّ الانتخابات الحرة والنزيهة خلال المرحلة الانتقالية وعدم رسوخ التقاليد الديمقراطية تبقى محل تحفظ واحتراز وطعن من قبل بعض الفاعلين السياسيين. وقد ترفض نتائجها ما لم تقم بتوفير مناخ سياسي وإطار قانوني بملامح واضحة حيث ترتفع درجة حريتها ونزاهتها باطراد كلّما تقيّدت الحكومة القائمة بمسافة واحدة من المتنافسين وكلما تأكّد حياد الإدارة من القمة للقاعدة وكلّما كان الإطار القانوني المنظّم للعملية الانتخابية وبيئتها الحاضنة ديمقراطيا هدفه الرئيسي ترجمة مختلف مكونات الإرادة العامة في تمثيل تشريعي أقرب ما يمكن من التطابق مع الاتجاهات والتيارات السياسية صلب المجتمع.
في المناخ السياسي:
يتشكّل المناخ السياسي من جملة التفاعلات والعلاقات التي تقيمها منظومة الإدارة والقضاء والأمن والنظام الاعلامي العمومي والخاص ومسالك تمويل العمل السياسي عموما والتمويل العمومي للعملية الانتخابية بشكل عام، سواء تعلق بجملة نفقات الانتخابات أو تمويل حملات الأطراف المشاركة في العملية الانتخابية مع القوى السياسية المتنافسة والتي تسعى إلى نيل ثقة الهيئة الناخبة وكذلك مع مختلف مكونات الرأي العام الوطني من منظمات ومراكز نفوذ وجماعات ضاغطة.
دور الإدارة في حرّيّة ونزاهة الانتخابات:
للمنظومة الإدارية التونسية ثلاث أذرع ترابية (العمدة/المعتمد/الوالي) وقطاعية (المؤسسات والمنشآت العمومية) ودبلوماسية (السفراء والقناصل) وهي تتميز بحضور قوي ويومي في حياة المواطن على المستوى الفردي أو الجماعي سواء تعلّق الأمر بالخدمة المقدّمة أو التشغيل. ولذلك فإنّ القائمين عليها وانطلاقا من وجودهم على رأس تلك الدوائر العمومية يتمتّعون بنفوذ فعلي وعميق في التأثير على الناخب في هذا الاتجاه أو ذاك وخاصة حينما يكون هؤلاء متحزّبين مقابل ما يمكن أن تقدّمه إدارة المؤسسة من خدمات وتسهيلات ومساعدات قد تخترق مختلف أوجه المنع القانوني.
مكانة القضاء في الانتخابات الحرّة:
يفترض أن ترافق المؤسسة القضائية كامل حلقات المسار الانتخابي من تحرير قائمة الناخبين وتقديم الترشحات وسير الحملات الانتخابية والاقتراع إلى إعلان النتائج واحتمالات الطّعن فيها. وهي تمثّل العين الرقيبة على سبل تطبيق شروط حرية الانتخابات وإجراءات نزاهتها. لذلك فإنّ على التشريع الانتخابي أن يكرّس ضمانات الحرية والنزاهة عبر منح المؤسسة القضائية ولاية الرّقابة على السّير القانوني للمسار الانتخابي من أجل ضمان حقوق الناخب والمترشح وذلك اعتبارا لفقدان الهيئة العليا المستقلة للانتخابات السّهر الكامل على العملية الانتخابية برمّتها.
دور المؤسسة الأمنية والعسكرية:
من نافلة القول أنّ للمؤسسة الأمنية والعسكرية دور محوري في ضمان المناخ الأمني الملائم لإجراء الانتخابات الحرة والنزيهة حينما تكون على مسافة واحدة من كلّ الأطراف المتنافسة وتُعامل الجميع وفقا لمنطق حفظ أمن البلاد والعباد دون تدخل في مختلف مراحل العملية الانتخابية والتزام الحياد التام وتطبيق القانون على الجميع بصرف النظر عن الهوية الفكرية والسياسية للمتنافسين والقوى السياسية التي تقف خلفهم.
الإعلام ورهان الحرية والنزاهة الانتخابية:
يلعب الإعلام خلال مختلف مراحل الاستحقاق الانتخابي دورا مهما في تشكيل الرأي العام والتأثير عليه لصالح هذا الطرف أو ذاك ويلعب الإعلام الخاص والسمعي البصري على وجه الخصوص دورا محوريا في تغليب كفة طرف على آخر حيث يتزاوج الحزب مع رجل الأعمال مع القناة الفضائية. وقد أكّدت التّجربة التعديلية التونسية الراهنة محدودية التعديل إن لم نقل تكريس اللامساواة الإعلامية التي شكّلت ظواهر الانتقاء والإقصاء والتجاهل أبرز مظاهرها الصارخة ولا يبدو المشهد الاعلامي العمومي في حالة جيّدة حيث حوّلته التّعيينات السياسية إلى ما يشبه الغربال السياسي الذي يدور في الفلك السياسي الرسمي بتعلات وذرائع واهية. لذلك فإنّ توجّها إعلاميا واضحا صوب ضمان تساوي الحظوظ من خلال سلسلة من الإجراءات بات أمرا متأكّدا لضمان حقوق كلّ الأطراف.
في تمويل الانتخابات:
إنّ الجدل الدائر بشأن التمويل العمومي الانتخابي يهمّ في حقيقة الأمر القوى السياسية التي لا تستند إلى مصادر تمويل خاصة وغير قابلة للتأطير القانوني وبالتالي فإنّ مشاركتها في المنافسة ترتبط أيّما ارتباط بالتمويل العمومي المسخّر قانونا للحملات الانتخابية والانفاق الانتخابي لأنّ القوى السياسية التي تحتكم إلى مصادرها الخاصة لن تحرم نفسها من القدرات المالية المتوفّرة لديها حتى في ظلّ تشديد الأحكام فيما يتعلق بالزجر الانتخابي. وبناء على ذلك فإنّ الحظوظ الانتخابية للقوى الفقيرة ماليا سترتهن بمدى قدرتها على الضغط السياسي من أجل فرض تساوي الحظوظ وتشديد الرقابة على الانفاق الانتخابي وتحديد سقف الانفاق الانتخابي بما يحقق التوازن بين الضرورات والمساواة.
في الإطار القانوني:
رغم الطابع الشكلي لجملة القواعد القانونية المنظمة للانتخابات فإن شكليتها لا تحجب الخلفية السياسية التي يصدر عنها المشرع في ترتيب مختلف مراحل المسلسل الانتخابي خاصة حينما يكون المشرع طرفا سياسيّا يستعد لخوض المنافسة الانتخابية. وفيما تبدو “الأغلبية التشريعية” مقيّدة بنتائج الصراع السياسي للصائفة الماضية ما تزال المعارضة غير موحّدة حول تصوّر مشترك وفرضه ضمن الحوار الوطني.
الهيئة العليا المستقلة للانتخابات:
لقد صدر القانون المحدث للهيئة العليا المستقلة للانتخابات خلال شهر ديسمبر 2012 أي قبل دخول العملية السياسية في منطق التوافق القسري الذي توّجه خروج حركة النهضة من الحكومة وكذلك قبل صدور قانون الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية القوانين المرتقب والذي نصّت عليه الأحكام الانتقالية لدستور 26 جانفي 2014 . وإنّ قراءة نقدية لأحكام قانون الهيئة تمكّن من تبيّن نقائص عديدة لعلّ في مقدّمتها الاستقلالية الإدارية والمالية المنقوصة للهيئة وكذلك محدودية ولايتها على كامل حلقات المسلسل الانتخابي باعتبار غياب آليات ضمان الاستقلالية ومكونات وآليات الولاية الكاملة (الفصول 3/20/21/22/28/33 من القانون الأساسي الصادر في 20/12/2012) لذلك فإنّ تنقيح القانون المحدث للهيئة في اتجاه تحقيق المزيد من ضمانات الاستقلالية الادارية والمالية وضمانات ولاية كاملة للهيئة على كامل حلقات المسلسل الانتخابي مسألة في غاية الأهمية.
القانون الانتخابي:
تكمن أهميّة الجدل بشأن القانون الانتخابي في كونه نظريّا على الأقل يمكّن من بناء توافق سياسي حول المضامين القانونية لتنظيم اختيار الهيئة الناخبة وبما يضمن تساوي الفرص في التنافس بين القوى السياسية. وبمعيار التوافق سيتبين القارئ المقارن لأحكام القانون الانتخابي بعد صدوره مع القانون المحدث للهيئة ملامح تأثير الظرفية السياسية الحافة في أحكام القانونين وتكييفها للنوازع السياسية لمشرّع/متنافس.
وفيما يستمر تحدد اتجاهات التصويت وفق الصورة الوطنية للقوى السياسية الأكثر تهيكلا وانتشارا وظهورا بما يرجّح أهميّة الإعلام والمال الانتخابي في تشكيل الحظوظ الانتخابية يستمر ضعف تمحور التصويت حول البرامج الانتخابية بما تحمله من رؤى سياسية وتوجهات اقتصادية واجتماعية وثقافية حيث ما تزال السمة الغالبة للكيانات المتنافسة بصفتها قوى سياسية بصدد الانتقال من مستوى النخب إلى قوى ذات بعد شعبي وعمق جماهيري في سياق حراك متعرج المسار وشديد التأثر بالتحولات والمتغيرات المحلية والاقليمية والدولية الأمر الذي يتطلب تبنّي نظام اقتراع إدماجي محكوم بقاعدة عتبة التمثيل الدنيا من أجل ضمان الاستقرار التشريعي والحكومي مع تقييد الانفاق الانتخابي ومعالجة العزوف.
إنّ أصعب اختبار تمرّ به الحكومة يكمن في قدرتها على ضمان مناخ سياسي يؤمّن التنافس ويُضفي على الانتخابات درجة عالية من المصداقية في سياق محلي وإقليمي ودولي بالغ الدقة والحساسية من حيث الهشاشة الأمنية والسياسية والاقتصادية/الاجتماعية وإن وعيا جدّ عاليا بالمسؤولية الوطنية من قبل كل مكونات المشهد السياسي والمدني سيكون أحد صمامات أمان تنظيم انتخابات تحظى بدرجة مقبولة من النزاهة والحرية.