تشير كافة الدّراسات الاقتصادية، سواء منها الصادرة عن المنظمات الدولية كمنظمة التجارة العالمية أو منظمة العمل الدولية، أو تلك التي تصدرها النشريات العلمية والمنظمات المستقلة، إلى أنّ تداعيات الأزمة الاقتصادية الناتجة عن تفشّي فيروس ” الكورونا ” في مختلف بلدان العالم، ستكون أكثر حدّة من تداعيات الأزمة المالية العالمية لسنة 2008 والتي لا تزال آثارها ملازمة للاقتصاد الرأسمالي العالمي إلى اليوم.
1 – من يدفع ضريبة الكورونا؟ رأس المال أم قوة الإنتاج؟
تقدِّر منظمة التجارة العالمية أن نسبة تراجع حجم المبادلات التجارية العالمية سنة 2020 ستتراوح بين 13 % و32 %، ووصف “روبرتو أزيفيدو” مدير عام المنظمة هذه الأرقام بأنها “بشعة”. كما حذّر تقرير المنظّمة من “حجم حالة عدم اليقين الكبيرة جدّا” بسبب العجز عن محاصرة هذا الفيروس وعن التكهن بمدى انتشاره زمنيا وجغرافيا. لكن “الكورونا ” في الحقيقة ليست العامل الوحيد المفسّر لأزمة المبادلات التجارية العالمية، حيث يشير نفس التقرير الصادر عن المنظمة إلى أن نموّ التجارة العالمية قد توقّف بالفعل قبل انطلاق الأزمة الوبائيّة في العالم، حيث سجّلت المبادلات العالمية للسّلع تراجعا بنسبة أقل من 01 % خلال الرُّبع الأخير من سنة 2019 مقارنة بنفس الفترة من السنة السابقة بسبب “التوتّرات التجاريّة المستمرّة” في إشارة إلى السياسة الصّدامية التي انتهجتها إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في علاقاتها التجارية الخارجية.
لقد ضربت الأزمة مختلف الأنشطة الاقتصادية، حيث بلغت الخسائر على المستوى العالمي إلى حدود منتصف مارس وفقا للهيئة الدولية للنقل الجوي، أن خسائر قطاع الطيران المدني ستتراوح بين 63 و113 مليار دولار، بل إن بعض الشركات أعلنت إفلاسها كشركة “فلابيي” البريطانية. كما أعلنت شركة الطيران الإيطالية “أليطاليا” عن التّسريح المؤقت لقرابة 4 آلاف عامل وإذا أضفنا قطاع النقل الجوي للبضائع فإن الخسائر تناهز 820 مليار دولار، و62 مليار دولار في السياحة مع توقّعات بخسائر شهرية تناهز 47 مليار دولار إذا ما تواصلت الأزمة. كما تراجعت قيمة الصادرات العالمية بـــ 50 مليار دولار حسب تقديرات مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (أونكتاد)، وقد اعتبرت قسم التجارة الدولية في المؤتمر باميلا كوك هاميلتون أن هذا قيمة الانخفاض هي رقم أوّلي وقد يكون ” تقديرا متحفظا”.
سيكون لهذه الأزمة الاقتصادية الشاملة انعكاسات اجتماعية مباشرة تتعلّق بتوقّف عشرات الملايين من العمّال عن العمل قدّرت منظمة العمل العالمية عدد الوظائف المُجمّدة بــــ 195 مليون وظيفة أي 37,5% من إجمالي مواطن الشّغل في العالم، وقد وضعت المنظمة سيناريو متفائل يقدّر عدد العاطلين عن العمل الذين سينضافون لعدد العاطلين عن العمل عبر العالم سنة 2020 بــ 05 ملايين عاطل، وسيناريو متشائم يقدّر العدد بــ 25 مليون عاطل، وقدّرت تراجع مداخيل الطبقة العاملة العالمية بــــ 03 تريليونات و 400 مليون دولار، أي إنّ تداعيات الأزمة الاقتصادية الوبائيّة على سوق العمل ستتجاوز في حدّتها تداعيات أزمة 2008 التي حرمت 22 مليون عامل من مواطن شغلهم. كما حذّرت منظّمة العمل العالمية من المخاطر التي تهدّد حياة 136 مليون شخص هم العاملون في قطاع الصّحة والمهن الاجتماعيّة عبر العالم.
وتفيد تقارير لجنة الأمم المتّحدة الاقتصادية لغرب آسيا (الإيسكوا) أنّ تداعيات الأزمة ستكون أكثر حدّة على اقتصاديات البلدان التّابعة للمراكز الرأسمالية الكبرى في العالم والتي ترتكز على تصدير المواد الخام أو المواد الفلاحية أو المواد نصف المصنعة، ومن بينها اقتصاديات البلدان العربية التي ستفقد 05 مليون موطن شغل وستسجّل زيادة في عدد العاطلين عن العمل بـــ 1,7 مليون شخص. كما سيجل الناتج الداخلي الخام العربي تراجعا بقيمة 42 مليار دولار.
2- صناعة الخوف والهلع
إنّ حجم الهلع والخوف الذي مكّنت أجهزة الدعاية والإعلام البورجوازية عبر العالم جعل العديد من مناهضي الرأسمالية يقرع طبول النّصر مُبشِّرا بانهيار النظام الرأسمالي بمعزلٍ عن الظروف المادية والاجتماعية التي لا تزال متحكّمة بالواقع ولم تشهد تغييرات جذريّة بسبب الأزمة الوبائية – الاقتصادية ويخفي هذا السلوك نزعة إرادوية خطيرة من شأنها أن تشوّش على التغيير الفعلي والحقيقي الذي من شأنه تقويض النظام الرأسمالي.
فحالة الهلع والخوف، هي الجسر الذي ستعبره الرأسمالية لتجاوز أزمتها ولاستئناف نشاطها في التوسّع والسّلعنة لمراكمة الأرباح من جديد بأساليب وطرق أكثر وحشية وعدوانية، رغم كون الأزمة الاقتصادية الحالية أزمة مركّبة من حيث هي أزمة وبائيّة – اقتصادية فإنها في الحقيقة ليست سوى أزمة دوريّة من جملة الأزمات المتعاقبة للنظام الرأسمالي العالمي. وما حالة الهلع والخوف التي نجحت أجهزة الدعاية البورجوازية العابرة للقارات وللعقول سوى تمهيد وتغطية على حجم الابتزاز الذي يمارسه أصحاب رأس المال على المستوى العالمي وعلى المستوى المحلّي. فلئن أثارت التعويضات المالية الهائلة التي ضحّتها الحكومات الرأسمالية لإنقاذ البنوك وشركات التأمين والرهن العقاري من الإفلاس موجة عارمة من الاحتجاجات الشعبية المنددة بتحويل أموال دافعي الضرائب تمويل القطاع العام والتجهيزات الأساسية إلى خزينة الرأسماليّين. ففي 18 سبتمبر 2008 أعلنت الحكومة الأمريكية عن خطّة بقيمة 700 مليار دولار لتخليص المصارف من أصولها غير القابلة للبيع ممّا أثار موجة الاحتجاجات، بل إن مجلس النواب الأمريكي يرفض خطّة الإنقاذ ليتمّ إقرارها بعد التعديل من قِبل مجلس الشيوخ، وفي أواخر شهر مارس الفارط أعلن الرئيس الأمريكي عن خطة إنقاذ اقتصادي بقيمة 2200 مليار دولار، أي أكثر من ثلاثة أضعاف ما أقرّته الإدارة الأمريكية سنة 2008، لتمرّ الخطة بسلاسة بل من الوارد دعمها باعتمادات إضافية في الوقت الذي يعيش فيه 46,5 مليون أمريكي تحت خط الفقر.
3- تحوّلات هيكليّة يشهدها النظام الرأسمالي:
نحن نعيش اليوم على وقع تحوّلات هيكليّة يشهدها النظام الرأسمالي من أبرز سماتها:
– التقليص إلى أقصى الحدود في حجم قوّة الإنتاج: وهذه النزعة ليست وليدة الأزمة الوبائية بل أصبحت خاصية من خاصيات نمط الإنتاج الرأسمالي منذ الثورة الصناعية الثالثة في أواخر الستينات باختراع الحاسوب ونقل أوّل رسالة عبر الأنترانت وإدماج الحواسيب في مختلف أطوار الإنتاج الصناعي والاتصالات والحواسيب وتدعّمت هذه النزعة مع انطلاق الثورة الصناعية الرابعة وظهور الذكاء الاصطناعي والـــ big data (الروبوتات، تعليم الآلات، التحكم في الجينات، تقنية النانو، تطبيق الطباعة الثلاثية الأبعاد في الصناعة والإنتاج…) حيث ألغت شركة جنرال موتورز الأمريكية أكثر من 4000 وظيفة سنة 2016 وألغت شركة فورد خلال نفس السنة 1400 وظيفة.
– تنامي نزعة الثّولثة ولا سيما الخدمات المالية والتكنولوجيا العالية في الاقتصاديات الرأسمالية الكبرى على حساب القطاعات المنتجة وقطاع الخدمات الهامشيّة في البلدان التّابعة على حساب القطاعات المنتجة.
– تواصل التقسيم العالمي للإنتاج بتوطين الصناعات الأكثر تلويثًا للبيئة والأكثر استهلاكا لقّوة الإنتاج في البلدان التابعة.
– تنامي الصّراع التجاري بين القوى الرأسمالية الكبرى وبالتالي الصراع على الأسواق ومناطق النفوذ
– عجز المنظّمات الدولية عن إدارة الخلافات والصّراعات.
إن قدرة الرأسمالية على تجاوز أزماتها الظرفية لا يخفي عجزها عن تجاوز أزمتها الهيكلية الملازمة لها منذ نشأتها والمتمثلة في التناقض الصارخ بين الطبيعة الاجتماعية للإنتاج والطبيعة الفردية للملكية، وكل أزمة ظرفية تمرّ بها، إنّما تعمّق هذا التناقض بنفي أعداد متزايدة من العمّال خارج دائرة الإنتاج أصلا مقابل تنامي الثروة والملكية في الجانب المقابل. فالعودة إلى جنْيِ الأرباح والمزيد من الأرباح تستوجب التضحية، لا بالملكية بل بقوّة الإنتاج وبالسّطو على المواد الأولية سواء كان ذلك بطريقة مباشرة بالاعتداء على البلدان وشنّ الحروب أو بواسطة المعاهدات والاتفاقيات اللّامتكافئة.
ولكن خلال هذه الأزمة، و كل أزمة، تكشف الرأسمالية عن وجهها الطّبقي السافر من خلال سعيها إلى إنقاذ مصالح قاعدتها الاجتماعية وترك عامة الكادحين والشعوب المضطهدة في مواجهة مصيرها المحتوم وتتجسّد هذه الحرب الطبقية في السلوك السياسي للحكومات والهيئات الممثلة لمصالح الرأسماليّين من خلال، على سبيل المثال، نسبة الاعتمادات المالية التي تخصّصها الحكومات البورجوازية لقاعدتها الاجتماعية ومقارنتها بما تخصّصه للعمال والكادحين أو من خلال رفضها لإعادة جدولة ديون البلدان التابعة في مثل هذه الظرفية الحرجة، أو سلوك القطاع الصحّي الخاص وشركات صناعة الأدوية خلال هذه الأزمة الوبائية. فكلّما وجَدت الرأسمالية نفسها أمام الخيار المصيري: الإنسان أو الربح، إلاّ واختارت الرّبح.
لم تكن الكورونا كافية لردع القوّة الإمبريالية الأولى في العالم عن الكفّ عن سياساتها العدوانية نحو الشعوب الأخرى، فهي الداعم الرئيسي للكيان الصهيوني لمواصلة جرائمه ضد الشعب الفلسطيني ولأكثر الأنظمة رجعيّة في الشرق الأوسط لمواصلة عدوانه على الشعب اليمني، وتمارس الحصار والتخريب ضد شعوب أخرى في المنطقة في مقدّمتها الشعبان السّوري والإيراني، وتواصل التآمر والتخطيط للاعتداء على سيادة وكرامة شعوب أخرى في أمريكا اللاتينية على غرار ما تحيكه من مؤامرات ضدّ الشعب الفنزويلي، ولا شيء يوحي بمراجعة الولايات المتحدة لسياساتها العدوانية في العالم، بل العكس هو الصحيح. فرغم بعض مظاهر التّقوقع والحمائية تحت شعار “أمريكا أوّلا” الذي يرفعه اليمين الأمريكي المحافظ فإنّ كل المؤشرات تدل على تمادي الولايات المتحدة في سياساتها الإمبريالية لمحاصرة القوى المنافسة لها الصاعدة في العالم وفي مقدّمتها الصين بوضع يدها على مصادر الطاقة والمواد الأوّلية لخنق الاقتصاد الصيني.
4- الصراع ضدّ الوباء جزء لا يتجزّأ من الصراع الطبقي
إن الحركة الشيوعية العالمية والحركات الاجتماعية المناهضة للرأسمالية اليوم، لا تزال بعيدة كل البعد عن قلب موازين القوى لفائدة البروليتاريا. ولكن هذا لا يعفيها من تحمّل مسؤوليتها كاملة في مواصلة التّشهير بجرائم الرأسمالية في حق الإنسان والطبيعة وتحريض الطبقات والشعوب المضطهدة على توحيد جهودها في مقاومة الوباء الحقيقي الذي يهدّد الإنسانية، كالوباء والاستغلال والاستعباد الذي عمّق التفاوت الطبقي الفاحش بين من يعمل ولا ملكية لديه، ومن يملك ولا يعمل. بل ووسّع من الفئة التي لا تعمل ولا تملك، أي حشود البروليتاريا التي استغنى رأس المال عن قوّة إنتاجها.
ستتجاوز البشرية هذه المحنة إن عاجلا أو آجلا، ومهما كانت التّضحيات. ففي ذروة الجائحة لم يتوقّف العقل البشري عن التفكير ورسم ملامح عالمِ ما بعد الجائحة. ولئن اكتفت أغلب الكتابات بطرح الأسئلة الكبرى حول ماهيّة عالم ما بعد الكورونا في علاقة بمصير العالم إذا ما تواصل السّير على نفس النهج الليبيرالي المتوحّش، أو دور الدولة وعلاقتها بالمجتمع وطغيان القيم الفردانية على العلاقات الإنسانية. في الآن نفسه يحاول الفكر البورجوازي بتراثه الكينزي للانحناء حتى تمرّ عاصفة الغضب على النظام الرأسمالي وتبشّر حشود المفقرين بعودة دولة الرعاية الاجتماعية وترميم القطاع العام الذي تفنّنوا في تخريبه.
ولكن رغم أن النظام البديل لا يمكن أن ينبجس بنفس قوانين النظام الرأسمالي، فإنّه على الشيوعيين ومناهضي الرأسمالية التعامل مع هذه التنازلات البورجوازية بمنتهى الحذر والبراغماتية بعيدا عن اليسراوية الرّافضة لأيّ مكسب لفائدة الطبقة العاملة في ظلّ نمط الإنتاج الرأسمالي وبعيدا عن الإرادوية واليمينيّة التي ترى في مثل هذه التنازلات نصرا إستراتيجيا وإمكانية لما يعتبرونه انتقالا سلسا للاشتراكية من داخل المنظومة البورجوازية. إن أيّ مكسب تنتزعه الطبقة العاملة والطبقات المضطهدة عموما من بين أنياب البورجوازية يعتبر مكسبا وتعديلا لموازين القوى ومُراكمة تاريخيّة داخل الصراع الطبقي وينبغي الدفاع عنه والحيلولة دون التّراجع عنه لأن البورجوازية دأبت طيلة تاريخها على انتزاع ما تقدّمه باليد اليمنى بيدها اليسرى، ولكنه في الآن نفسه ليس سوى تلطيف لشروط الاستغلال الرأسمالي وإبعاد لشبح انتفاضة أو ثورة اجتماعية.
الحبيب الزموري