لا نريد العودة بالحديث عن الوضع الصحي الكارثي بجهة قابس إلى ما قبل الثورة لأنه استوفى حظه من الحديث وأسال الكثير من الحبر للكتابة والتنديد وتعرض لأجل ذلك الكثير من أبناء قابس للاضطهاد والمضايقات والتتبّعات وغيرها ثم جاءت الثورة فاستبشر الجميع بقدومه وكان على رأس مطالب الأهالي بالجهة معالجة موضوع التلوث والعناية بالوضع الصحي المتردّي بصفة مُمنْهجة من طرف العهدين السابقين.
سلطة جهويّة ورِثت المُوالاة والتحزّب والفشل
لقد بيّن الواقع والوقائع الملموسة أنّ للحكومات المتعاقبة بعد الثورة أولويّات أخرى غير تلك التي في مخيّلة الشّعب الثائر، المُطالِب بالكرامة والشّغل والحرّية المسلوبة في كلّ معانيها. فقد تحوّلت أنظار الجميع صوب انتخابات 2014 عسى تكون نتائجها أفضل من التي سبقتها (انتخابات التّأسيسي) من حيث تلبية مطالب الناس وتحقيق أهداف الثورة في وضع مشروعٍ تنمويٍّ ينهض بالبلاد ويحقّق العدالة الاجتماعيّة.
لكن انتخابات 2014 جاءت نسخة مطابقة لحكومة الترويكا وتعمّقت خيبة أمل “القوابسيّة” بسبب التعيينات في مفاصل الادارة والسلط الجهوية والمحليّة، فالولاة الذين تولّوا تسيير أمر الجهة بعد انتخابات 2014 هم من ابناء المنظومة البائدة، حيث نُصب والٍ هو ماضٍ “زاهر” مع التجمع، فتكرّست عقلية الشُّعب الدستورية والتطبيل والتزمير والمحاباة. وعلى إثر ردود فعل المجتمع المدني تمّ تغييره، ليحلّ محلّه منذ أكتوبر 2016 آخر ينتمي لحزب حركة النهضة وكان عضوا بمجلس شوراها، الذي وجد نفسه في بيئة حاضنة قويّة روّضت له جميع مكونات المجتمع المدني إلّا ما ندر بما فيها المنظمات الوطنية بالجهة التي سايرته في إخضاع الجهة بكاملها إلى مشيئة حزبه.
لم تعرف الجهة طوال الأربع سنوات الماضية أيّ تحرّك من المنظّمات المناضلة تاريخيا رغم القرارات والمواقف الخاطئة التي صدرت عن هذا الوالي ورغم تقاعصه في تنفيذ ما جاء في قرار المجلس الوزاري الخاص بجهة قابس منذ 25 جوان 2015 لفائدة الجهة في جوانبها التنموية والصحّية والبيئية والتشغيليّة والتجارية والنقل البري والبحري وغيرها من الملفّات والمطالب حُدِّدت كلّ مواعيد تنفيذها ورُصِدت لها الأموال اللّازمة للإنجاز، لكنها بقيت حِبْرا على ورق إلى يوم الناس هذا، بل أنه استعاض عن كلّ ذلك بملاحقة العديد من نشطاء المجتمع المدني قضائيّا بسبب وقفاتهم الاحتجاجية والنضالية من أجل حقّ الجهة في التنمية وبيئة سليمة ومن أجل الشّغل، ممّا خلق مناخا متوتّرا بينه وبين مكوّنات المجتمع المدني الفاقدة للدّعم من المنظمات الكبرى.
سلطة جهوية مرتبكة في مواجهة الوباء
في مرحلة “الكورونا” التي لم يحسن السّيد الوالي الاستعداد لها ولا التّعامل مع مستجدّاتها واستشراف تطوّراتها المفاجِئة للجميع، حيث أظهر أنه لا يمتلك صفة القائد للإدارة الجماعيّة للأزمات وما تتطلّبه من حِنكة وحسن تدبير ومراعاة جميع الوضعيّات التي تصاحب مثل هذه الكوارث الجماعية من اضطرابات نفسيّة وانفعالات ناتجة عن تخوّف البعض من التعرض للإصابة وكانت أوّل المُحالين أمام قاضي التّحقيق بالجهة مُمرِّضتين رفضَتَا وضع إحدى المتوفّيات بقسم الأمراض الصّدرية يشتبه في إصابتها “بالكورونا” في انتظار نتائج التحاليل، ومن شدّة خوفهما وثّقتا الحادث في مشهد فيديو ممّا أثار حفيظة الجميع. ولم يحرك السيد الوالي ساكنا، بصفته رئيس لجنة مكافحة الطوارئ بقابس، وهو، قبل غيره، مطالب بتدبّر الأمر للتّخفيف من وطأة هذا الوباء على نفوس الجميع.
ومع إعلان السيد رئيس جامعة قابس استعداده للمساهمة بجميع معدّات مخبر كلية العلوم بقابس المتطورة القابلة إجراء التحاليل الخاصة بفيروس “كورونا” لفائدة المستشفى الجهوي وتلكّؤ الوالي في تلقّف هذه المبادرة، ممّا خلق حالة من التوتّر الاجتماعي هدّد فيها البعض بخرق الحجر الصحي العام في وقفة احتجاجية جماعيّة أمام مقر الولاية لولا التفاعل الإيجابي لوزير التعليم العالي والبحث العلمي مع الموضوع حيث بادر يوم 18 أفريل 2020 بإمضاء اتفاقيّة شراكة بين المستشفى الجهوي وكلية العلوم بقابس لنقْلِ هذه المعدّات إلى مخبر المستشفى واستعمالها للغرض.
وتتالى هفوات الوالي في هذا الظّرف الدّقيق، ارتكب هو والفريق المصاحب له في لجنة مكافحة الكوارث بقابس خطأً فادحا، كان من المنطقيّ أن تتم محاسبته وإقالته وفريق عمله، حيث سمح الوالي لمجموعة من التونسيّين العائدين من القطر الليبي الشّقيق بعد أن قضّوا مدة الحجر الصحي بأحد المراكز المخصّص للغرض بالمدينة، من العودة إلى مناطقهم قبل أن تصلهم النّتائج النهائية للاختبار النهائي لسلامة المجموعة من الإصابة بالفيروس. لكن بعدما وصل جميعهم إلى مناطقهم واختلاطهم بأهاليهم وأصحابهم ومهنِّئيهم، تبيّن أنّ أحد العمّال العائدين (وهو أصيل جهة مارث) نتيجة تحليله إيجابية، فبعد أن كان المواطن من المسرّحين أصبح في لحظة من المطلوبين في أسرع وقت وبأي طريقة، وهو ما تمّ فعلا حسب ما رواه المُصاب نفسه الذي أكّد أن السيد الوالي تنقّل يوم خروجهم إلى مركز الإيواء وألقى فيهم كلمة “تهنئة” ودعاهم للتقيّد بتراتيب الحجْر الصحّي، وأضاف المُصاب نفسه بأنّ أحد الأطباء، وهو عضو بلجنة مكافحة الطوارئ بقابس، أكّد لهم سلامتهم وأن أبدانهم خالية تماما من هذا الفيروس المُخيف، لتنقلب فرحة الأهالي بعودة إبنهم إلى مأساة عامة طالت عددا هامّا من سكّان المنطقة ممّن كان لهم اتّصال مباشر بالمصاب، ويخضع العديد منهم للتّحاليل وتم نقلته إلى مدينة المنستير في انتظار متابعة مخلّفات هكذا تسرّع من “مسؤولينا”.
نهاية “كورونا” لن تكن غدا واستتباعاتها لن تقف في الشهر القادم، لكن هل تسلم قابس وأهاليها من تكرار هكذا حماقات غير محسوبة العواقب وتنطوي على كوارث صحّية ومآسي إنسانية يبقى جرحها غائر في النفوس أبد الدهر وتبقى أيضا علامة سلبيّة في الذاكرة الجماعية لجهة قابس لِما عرفته من ضياع فرصٍ وتأخيرٍ وربّما خسارة مشاريع استثمارية وتنمويّة يمكن أن لا تعوَّض على المدى القريب؟
الدّعوة موجّهة للقائمين على أمور البلاد حتّى تكون التّعيينات مستقبلا قائمة على مضامين وأهداف لمخططات جهوية في إطار برنامج تنمويّ شامل يُسْهِم في تقدّم البلاد لأنّه بمثل هكذا مسؤولين لا يمكن للبلاد أن تتقدّم، والدّعوة أيضا لكلّ الطيف الوطني والديمقراطي بالجهة لمزيد اليقظة إزاء التّهميش الممنهج الذي تتعرّض إليه الجهة، ممّا جعل التنمية فيها تنعدم، والأمراض والأوبئة البيئيّة تزداد تفشّيا.
مع تمنّياتنا السلامة والعافية للجميع.
عبد الخالق قفراش