انتهى الأسبوع الماضي على وقع إحالة ملفّ صفقة الـ32 مليون كمّامة على القضاء، لتنطلق الدّعوات باقالة الوزير المتورّط فيها ورفع الحصانة عن رجل الأعمال وعضو مجلس نواب الشّعب جلال الزياتي، ومحاسبتهما بالإضافة إلى رجل الأعمال حسني بوفادن من أجل التّلاعب بالصّفقة وشروطها وتسريب معلوماتٍ حولها ليقع إفراغ السّوق من المواد اللازمة لتصنيع الكمّيات المطلوبة من الكمامات، خاصّة أمام إقرار المسؤولين السّاميين صراحة بتواصُلهما هاتفيّا في خصوص.
وحظي هذا الملف بجدل إعلامي وسياسيّ وحتّى شعبي كبير، بعد التّصريحات التي قدّمها المسؤولين المُشار إليهما الذيْن اعتصما بحُسن نيّتهما واجتهادهما للتّعجيل بتوفير هذه الكمّامات.
ولئن تمكّنت هذه التّصريحات من تهدئة بعض الآراء المتفهّمة نوعا ما لتبريرات المسؤولين، إلاّ أنّه سرعان ما تلاشى هذا التفهّم بعد حوار رئيس الحكومة ليلة الأحد 19 أفريل 2020.
الفخفاخ الذي أراد أن يواصل الظّهور بثوب العازم والواثق، قد يكون اِرْتكب هفوةً ومنَح لِغرمائه السّياسيين سببا جيّدا لتعجيل سحب الثّقة منه مباشرة بعد الجائحة، فإجابته عن سؤال الصحفيّيْن المُحاوريْن في خصوص تورّط وزير الصناعة في شبهات فساد تشوب صفقة الكمّامات كانت خطيرة للغاية وتُشرِّع لانتهاك القانون بتعلّة الظروف الاستثنائيّة.
وتكمن خطورة هذه الإجابة في كونها توضّح توجّه حكومة إلياس الفخفاخ بأكثر دقّة. ولئن شبّهه عديد المُحلّلين بيوسف الشاهد من حيث تلاعبهم بالقانون والمصلحة العامّة، فإنّ هذا التّشبيه يبقى محدودا باعتبارأنّ الفخفاخ، وعلى خلاف الشاهد الذي اعتمد في قراراته التعسّف في تأويل القانون، فإنّه عازمٌ على اللّجوء إلى خرق القانون من أجل تنفيذ سياساته، وهو ما كان جليّا من خلال الدّفاع الشّرس عن الوزير ذي الشّبهة، والاحتجاج في ذلك بحُسنِ نيّته واجتهاده والإجراءات المُطوّلة التي فرضها قانون الصّفقات العموميّة.
ويُحِيلنا هذا بدوره إلى مسائل أخرى أكثر خطورة، ذلك أنّ قانون الصّفقات تضمّن إجراءات استثنائيّة لمثل هذه الظّروف، ومكَّن الدولة ومؤسّساتها من إبرام صفقاته في آجال لا تتجاوز 48 ساعة. هذا الأمر يجعل حتْمًا رئيس الحكومة في موقف مُحرجٍ، وهو تبرير خرْق القانون لأسبابٍ غير صحيحة، الأمر الذي يؤدّي إلى سقوط الحكومات وتفكّك الأحزاب في الدول التي تحترم شعوبها.
ثمّ إنّ رئيس الحكومة الذي تعلّل بالبيروقراطيّة المعطّلة لحسن تسيير دواليب الدولة في الآجال المعقولة، سبقَ له أن تذمّر من البرلمان الذي لم يعجّل بإسناده التّفويض، لكنّ هذا التفويض بقي أسبوعا كاملًا ليُنشر بالرائد الرّسمي للجمهورية التونسية، وهي مؤسّسة تخضع لإشرافه، كما بقي لأكثر من أسبوع بعد ذلك من أجل نفاذه بسبب سَهْوٍ وقع فيه البرلمان لمّا غاب عنه إدراج بُنْد يقضي بدخول التّفويض حيّز النفاذ بمجرّد المُصادقة عليه.
كما أنّه، ومن جهة أخرى، وقع الفخفاخ في تضاربٍ واضح، بين موقفٍ عندما توجّه إلى باردو طالبا التفويض والقائل بأنّ الحرب على الكورونا يجب أن تكون تحت طائلة الديمقراطية ودولة القانون، وبين موقفه في خصوص صفقة الكمّامات.
ولربّما كان هذا التّصريح سابقة في فترة ما بعد الثورة، ضرورة أنّه لم يسبق لأيّ رئيس حكومة تبرير خرق للقانون بوضوحِ وخطورةِ واقعة الكمّامات.
وربّما يكون الأمر أكثر خطورة، خاصّة بالرّجوع إلى تصريحات المختصّين والمسؤولين في قطاع الصّحة، لعلّ أهمها تصريح الوزيرة السابقة للصحّة التي أكّدت أنّ الكمّامات غير ذات جدوى إلّا للمرضى والطّواقم الصحيّة، إلا أنّه ومنذ بداية شهر أفريل الحالي انطلقت دعوات لِإجْبار الجميع على ارتداء الكمّامات والشّروع في الإعداد لصفقة عمومية في الغرض عن طريق الصّيدلية المركزية. يقترن هذا التّغيير في الموقف الرّسمي مع التفاوض المباشر الذي قام به الوزير وتضارب المصالح الذي وقعت فيه لجنة إعداد كراس الشروط وتسريب المعلومات لرجل الأعمال، فضْلا عن التّبريرات والأعذار التي تصاعدت من هنا وهناك وعدم تحرّك وزارة الوظيفة العمومية ومكافحة الفساد التي يشرف عليها محمّد عبو الرافع لشعار مكافحة الفساد.
قد تتطوّر الأمور لتصبح اتّهامات مباشرة بالفساد موجّهة للحكومة، وحتى في أحسن أحوالها، لا يمكن أن تفنّد التفاتها عن الملف، وعبارات “وزير الحوكمة” و”حكاية فارغة” والإغْفال عن ذكر عمل هيئة مكافحة الفساد عند استعراض المجهودات الوطنيّة.
وفي كلّ الحالات، صفقة الكمّامات ليست إلاّ ملفّا أخذ مكانه في الرفّ للتوّ، إلى أن يدفنه غبار غياب الإرادة السياسية لمكافحة الفساد وبطء الزّمن القضائي وخضوع كلّ السلط للتّوافقات السياسية، هذه العناصر الثلاثة التي تؤسّس شبكات الفساد، وهي التي تضمن لها الإفلات من العقاب.
الحبيب الورغمي