ألفة بعزاوي
مع ظهور فيروس كوفيد 19 ومع إعلانه كجائحة عالمية، بات هذ الوباء المستجد تهديدا حقيقيا لكل المجتمعات، وفرض على الحكومات اتخاذ جملة من الإجراءات للحد من انتشاره، إجراءات على ضرورتها فان لها انعكاسات ومخلفات اقتصادية واجتماعية ونفسية على المجتمع بأسره، وأخص هنا بالذكر إجراء الحجر الصحي الذي تغير معه نسق حياتنا دفعة واحدة.
لا عمل للسواد الأعظم من المواطنين ولا خروج للفضاءات العامة، لا أنشطة ثقافية ولا رياضية أو غيرها، توقفت كل الأنشطة تقريبا. وصار الاهتمام الأكبر للجميع هو متابعة المستجدات اليومية المتعلقة بانتشار المرض بل صار الكل خبيرا فيما يخص منحنى تطوره (courbe d’évolution ) وعاد الاعتبار لأهل العلم من أطباء ومختصين مقابل تراجع الفكر الرجعي اللاهوتي … وصار هذا الاهتمام الممزوج بالخوف والفزع شأنا حياتيا يوميا.
وهو أمر طبيعي فنحن نعيش اليوم حياة الانتظار ولكن نفق الانتظار هذا مجهول الأبعاد.
مع تقدم عامل الوقت بدأت أرقام أخرى تجلب هي بدورها الأنظار لعل أبرزها تضاعف العنف المسلط على النساء 7 مرات خلال هذا الحجر، أي انه تقريبا كل 45 دق هناك امرأة في تونس تتعرض إلى العنف.
هذا إضافة إلى بشاعة هذه الجرائم التي وصلت في عدة حالات إلى وفاة الضحية فتحول الفضاء الذي كان من المفروض أن يكون الأكثر أمانا في العالم بالنسبة إلى النساء إلى مكان تفوح من كل أرجائه رائحة الخطر والذعر للعديد منهن.
هذه الأرقام وكأنما تصفعنا على الخدين لتقول: “احذروا، فهناك أوبئة أخرى! مجتمعاتنا تسودها الأوبئة وقد تصير أكثر خطورة إن لم نبحث لها عن علاج هي الأخرى !”
انطلقت في هذا الصدد عدة حملات سواء على فضاء التواصل الاجتماعي (مثلا مبادرة تغيير الصورة الشخصية لحسابات الفايسبوك إلى اللون الأسود، نشر صور مع حمل شعارات منددة بالعنف ضد النساء..) أو بعض النداءات والمقترحات التي تقدمت بها جمعيات ومنظمات. كما سلطت وسائل الإعلام الضوء على هذه الظاهرة. وفي محاولة لشرحها، ودونما تمعن وتمحيص، تردّدت في عدة برامج تلفزية تناولت الموضوع جملة لم أتمكن من استصاغتها، وأعتقد أنه لا يجب استساغتها، مفادها أن السبب هو “مكوث الضحية مع الجاني في فضاء مغلق”. كأنما نقول إننا إذا ما وضعنا ذئبا وأرنبا في قفص واحد فلا يمكن أن ننتظر غير انقضاض الذئب على هذا الأرنب.
بعبارة أخرى، كأننا نسلّم أنّ مثل هذه العلاقة بين الرجل والمرأة متأصلة في الطبيعة البشرية. أي أنّ الرجل بطبيعته جاني في علاقته بالمرأة والمرأة ضحية بطبيعتها في علاقتها بالرجل.
هذه المقولة فيها إلى حد كبير دحض للطابع الاجتماعي لظاهرة العنف، كما أنّ لها مخاطر كبرى منها تعطيل فئة بكاملها في التصدي لهذه الظاهرة وفي التفاعل مع الحملات والنداءات الرامية إلى إيقافها في الآونة الأخيرة، فئة وضعت موضع الجناة. وقد تتحول بالتالي المسألة إلى صراع بين الجنسين.
كما أنّ لمثل هذا الشرح خطرا كونه يمكن أن يكون مدخلا ملائما للقول بأزلية التمييز بين الجنسين ونفي الطابع الاجتماعي التاريخي عنه أيضا.
وفي محاولات أكثر جدية لتناول الظاهرة تردّدت مقولات من قبيل المجتمع البطريكي/الأبوي والعقلية الذكورية والموروث الثقافي… هذا قد يفسر مثلا ارتفاع ظاهرة العنف في بعض المجتمعات (العربية مثلا) مقارنة بغيرها من المجتمعات حيث تسود هذه العقلية الذكورية وحيث هناك تطبيع مع العنف بشكل عام (لنا مثلا في العنف الممارس داخل قبة البرلمان في الأيام الأخيرة خير دليل على هذا التطبيع). غير أننا هنا بصدد محاولة تحليل وشرح نقطة بعينها: “ارتباط تضاعف ظاهرة العنف بالحجر الصحي” ولسنا بصدد تحليل ظاهرة العنف في المطلق. وفي هذا الإطار تجدر الإشارة إلى أنّ الأرقام والتقارير تشير إلى ارتفاع مخيف لنسب العنف في كل دول العالم التي فرضت على مواطنيها البقاء في المنزل كإجراء للحد من انتشار الجائحة. ففي باريس مثلا ارتفع عدد الشكاوي بنسبة 36% إلى حدود الأسبوع الأخير من شهر مارس. وقد صرح الأمين العام للأمم المتحدة أنّ فترة الحجر شهدت “طفرة عالمية مروّعة في العنف المنزلي”.
أَوَ ليست هذه الأرقام والإحصائيات منقوصة من بعد هام: الاقتصادي-الاجتماعي؟
ماذا لو كانت الدراسة كالآتي: تطور حجم العنف المسلط على النساء خلال فترة الحجر في ارتباط بالشريحة الاجتماعية أو بشكل أبسط بكثير في ارتباط بدخل الأسرة (في شكل سلم).
لا أتوفر على مثل هذه الأرقام، لكني أكاد أكون جازمة أنه بالنسبة إلى العائلات ذات الدخل المرتفع لما وجدنا تغيرا كبيرا في منسوب العنف المسلط على النساء قبل وبعد الجائحة. ولكنا وجدنا أنّ العدد تضاعف لأكثر من 7 مرات لدى الأسر ضعيفة الدخل.
فمع تزايد الضغوط الاقتصادية والاجتماعية وتنامي الخوف (خوف من الوباء، خوف من الجوع، خوف من المجهول القادم…) تنفجر هذه الضغوطات عنفا يمارس على الحلقة الأضعف في منظومة الإنتاج وهي بالنسبة إلى النواة الأسرية: المرأة.
(تجدر الإشارة أيضا إلى ظاهرة لم تسلط عليها الأضواء بالشكل الضروري: الأطفال والشيوخ هم أيضا من أبرز ضحايا العنف الأسري زمن الكورونا، لكن عدم قدرتهم على التبليغ والإشعار لدى الجهات المختصة هو ما يجعل الحقيقة محجورة معهم خلف الجدران).
لو دققنا النظر لوجدنا أنّ أغلب الخلافات خلفيتها مادية اقتصادية خاصة مع هيمنة العقلية الذكورية التي تعتبر أنّ النساء هن فقط موكولات داخل الأسرة بالتالي فهن يمثلن عبئا إضافيا على الرجل خلال هذا الظرف.
في المقابل كانت الإجراءات التي اتخذتها الحكومة محدودة تنمّ عن إدارة غير عادلة للأزمة. فبالإضافة إلى كون السواد الأعظم من الفئات الهشة لم يكن لها نصيب في هذه الإجراءات سيطرت على هذه الإجراءات نفس العقلية “القليل للعمال والأجراء والكثير لغيرهم” وهو ما جعل هذه الفئات الشعبية والهشة يدخلون ساحة الحرب على الوباء عزلا.
أولا يسعنا القول أنّ المسؤول الرئيسي عن هذه الطفرة في منسوب العنف ضد النساء هو هذه الحكومة بتقصيرها وتنصّلها من المسؤولية تجاه غالبية الشعب؟
إنّ المشكل، كلّ المشكل هو في نمط وعلاقات الإنتاج الرأسمالية، في منظومة اللاعدالة واللامساواة القائمة على استغلال الانسان للإنسان.
فلنتخيل فقط أنّ الإنسانية واجهت هذا الوباء في ظل نظام مختلف، نظام قائم على المساواة، نظام قائم على العدالة في توزيع الثروة، حيث الحق في الصحة والعلاج مكفولة للجميع، حيث للكل حق في عيش كريم، حيث لا استغلال ولا مراكمة أرباح…. هل رأيتم الفرق مثلي؟ لكانت الوقائع مختلفة كثيرا…
إنّ هذا العالم هو ما ينبغي أن ننشده، أن نناضل لفرضه بعد انتهاء هذه الجائحة.
في هذا الحجر عيون جائعة للحب والحرية والمساواة، تحتال على الزمن وتتطلع إلى الأمام مختلسة أملا ما.
في هذا الحجر أيادي ماتزال مرتفعة تواصل بحثها عن عالم أفضل.