علي البعزاوي
الكل يشتكي اليوم ويستجدي الدولة لجبر الأضرار الناجمة عن كورونا، المؤسسات الكبرى والمتوسطة والصغرى والمؤسسات التربوية الخاصة ووكالات الأسفار والنزل وأصحاب محلّات تعليم السياقة وأرباب المقاهي وأصحاب سيارات الأجرة والحرفيّون وأصحاب المِهن الصغرى، إلى جانب العمال اليوميّين والوقتيّين في شتّى القطاعات…
وبقطع النّظر عن مشروعية هذه الطّلبات ومدى وجاهتها فإنّ الحقيقة التي لا غُبار عليها هي أنّ دافعي الضّرائب هم من الذين سيموّلون جزئيا هذه الطّلبات. هؤلاء سيهبّون لنجدة الجميع، مؤسّسات وأفرادا، من خلال الدولة إمّا في شكل جرايات/هبات/منح أو في شكل خطوط تمويل أكّدت التجربة التونسية أنها غالبا ما لا يقع استخلاصها. ولنا في الإجراء الذي اتّخذته حكومة الفخفاخ أخيرا بتأجيل خلاص الديون الديوانية والجبائية المتخلّدة بذمّة كبار الرأسماليّين لسبعة سنوات أخرى التي تبلغ 10 ألاف مليار خير مثال.هذه المستحقّات ستسقط مع الوقت ولن يقع خلاصها ولن تستفيد منها الخزينة العامة للدولة المرهقة بالديون.
إن طلبات المؤسّسات الصغرى والمتوسّطة وجيهة ومشروعة لأنّها تسعى إلى الحفاظ على كيانها وقد أرهقتها مزاحمة المؤسّسات المصدّرة التي متّعتها الحكومة بزيادة في نسبة البيع في السوق المحلية (50% بدلا عن 30 % قبل الأزمة) وغياب الدعم من طرف الدولة الذي يذهب في الجزء الأكبر منه إلى المؤسسات الكبرى وكذلك طلبات العمال والحرفيّين وكل الفئات الهشة لأنها تتعلّق بعيشهم وبقائهم على قيد الحياة. هؤلاء لا موارد لهم وهم غير قادرين على الاستمرار في الحياة دون بيع قوة عملهم في سوق الاستغلال الرأسمالي وهو أمر غير ممكن في ظلّ الحجر الصحي العام.
أمّا أصحاب المؤسسات الكبرى والنزل ووكالات الأسفار والمصانع التي على ملك كبار الأثرياء ومؤسسات التعليم الخاصة التي بعثت لضرب المدرسة العمومية فلهم مدّخراتهم وأرباحهم ورأسمالهم وحساباتهم الجارية، وقد راكموا الثّروات الهائلة وتمتّعوا بالامتيازات مقابل إنتاج أو خدمات يسدونها. فبأيّ وجه حقّ يطالبون اليوم بالتّعويض والدعم وقد فتِحت أمامهم خطوط التمويل بما فيها من خطر عدم الخلاص خاصة وأن الدولة هي الضّامن وهي في أغلب الأحوال مثلما سبق ذكره من سيتحمّل التّبِعات اعتمادا على أموال المجموعة الوطنية؟
وإذا كانت الدولة هي الموفّر للأموال والدّافع والضّامن والمتدخّل والمتحمّل للمسؤولية فلماذا لا تقوم بهذه المهمّة بتماسكٍ وفي كل الظّروف، زمن الرفاه وزمن القحط، مثلما كان في الستينات قبل أن تنخرط تونس في برنامج الإصلاح الهيكلي سيّء الصّيت.
إنّ الحلّ المنطقي الذي وفّرت الجائحة شروطه ومبرّراته بصورة ملموسة هو في تحمّل الدولة لمسؤوليّتها في التّخطيط والتنمية وبعث المشاريع الكبرى ذات القدرة التشغيليّة خاصة في القطاعات الاستراتيجية من فلاحة وصناعة وبُنية تحتيّة وخدمات أساسية كالصحة والتّربية والبيئة وفي التشغيل أيضا، وتعبئة الموارد بالاعتماد أساسا على القدرات الذاتية من خلال الجباية وحسن التصرّف في الممتلكات العامة ومحاربة الفساد في أعلى هرم الدّولة وداخل مؤسّساتها المختلفة، وقد كشفت الأزمة الأخيرة وتداعياتها عن عيّناتٍ ملموسة من الفساد الرّسمي الذي حان وقت معالجته معالجة جذرية.
الدّولة تصبح بهذا المعنى في مرتبة ربّ العائلة الواسعة وراعيها وحاميها من كل الأخطار الداخلية والخارجية، إنها دولة القانون والمؤسّسات الديمقراطية المسؤولة والخاضعة للمراقبة الشّعبية والمحاسبة.
هذا التوجّه لا ينفي أن يكون للقطاع الخاص دور هامّ في هذه المنظومة التي تقودها الدولة. هذه الأخيرة تنظّم تدخّله بقوانين محدّدة حتى يصبح مكمِّلا وداعمًا لجهودها المختلفة وتُتابع مدى التزامه بالقوانين الشّغليّة وبمدى تحمّل مسؤولياته الجبائيّة مع حقّه المضمون في النشاط وتحقيق الأرباح. هذه هي الدولة الوطنية الحقيقيّة البديلة عن دولة الاستعمار الجديد. إنّها إحْدى أهمّ الاستخلاصات الواجب الخروج بها لِدرْء الأزمة والخروج من النّفق.