عمار عمروسية
يبدو أنّ ولع الخطاب الرّسمي بالعزف على تحريك المشاعر الشعبيّة البسيطة والعفوية للتّمويه على الإخفاقات الفاضحة في إدارة الشأن العامّ قد أضحى السّلاح المفضّل لدى رجالات السلطة خصوصا أثناء الأزمات والصّعاب. ومن المضحكات أنّ هذا التّمشي القائم على تزوير الواقع واحتقار الذكاء والعقول كان من الأدوات الاتصالية التّعبويّة التي افتُضح أمرها طوال الحكم الدّيكتاتوري.
فالكلّ يذكر مفردات القاموس النوفمبري حول الاستثناء التّونسي في مجال الحقوق والحريات وقت اشتداد فترة للقمع والاضطهاد. والجميع يذكر سرديات “المعجزة الاقتصادية التونسية” زمن اختناق الاقتصاد وانتشار آفة البطالة والفقر. ومن المضحكات المبكيات كما يقال أنّ طغمة اليوم سرعان ما نبشت في القديم المتهالك وأنعشته ليعود الي حيويّته القديمة.
فمنذ أيّام وتحت جائحة “كورونا” تكاثرت في تصريحات أكثر من مسؤول حكومي عبارات “المعجزة التّونسيّة” و “الاستثناء التونسي” في علاقة بطرق التصدي لفيروس كوفيد-19!!!
وذهب الأمر بوزير الصحة السىيّد “عبد اللطيف المكي” حدّ التبشير بأن تصبح التجربة التّونسيّة مادّة للتّدريس في كبريات جامعات العالم!!! وتجاوز الخطاب الخشبي تلك الحدود مع آخرين ليطال مجمل مضامين السياسات المتّبعة من قبل منظومة الحكم.
ودون شكّ فالوقائع الملموسة تكشف بسهولة عن زيف ذاك الخطاب وتهافته وفيما يلي نورد البعض من تلك الوقائع :
1- إنّ محدوديّة تفشّي جائحة “كورونا” ببلادنا ليست تميّزا تونسيّا مرتبطا بسياسات حكم وجهود “جنرال”، ذلك أنّ مجمل القارّة الإفريقية وبلدان أخرى كثيرة مثل أوروبا الشرقية… كلّهم مازالوا في أوضاع متقاربة ومشابهة في حجم الخسائر البشرية وعدد الإصابات.
فهذه الظاهرة محلّ بحث واجتهاد من قبل أكبر المراكز العلميّة وأطبّاء العالم وهي في كلّ الحالات لا توصد الباب أمام إمكانية السّقوط نحو مخاطر أكبر مثلما حذّرت المنظمة العالمية للصحة في أكثر من مناسبة.
فهل يحقّ الحديث عن “معجزة” والمنظومة الصحيّة لم يقع اختبارها؟ وهل يستقيم الاطمئنان لمعالجة الوباء والجميع يقرّ بهشاشة المنظومة الصحية وتهالكها نتيجة الإمعان في الخصخصة المتوحّشة وضعف الموارد المالية المرصودة لخطّ الدّفاع الأولّ عن حياة التونسيات والتونسيين؟ وهل من عناصر “الاستثناء” الإيجابي الذي سيدرس ضعف التحاليل المجرات حتّى هذا الوقت والتي يبدو أنّها بقرار سياسي تنحو يوميّا نحو النزول المثير للضّحك والخوف في آن واحد (من 780 إلى 263 يوم 28 أفريل)؟.
وهل “المعجزة” تحتمل أن تكون انطلاقة تجربة التّحاليل السريعة في كلّ من تونس وقبلي مقترنة بأخطاء فنيّة وتقنية بدائية ومخزية زيادة عن عدم وصول 400 ألف من تلك التّحاليل رغم الوعود الكثيرة وانقضاء كلّ الآجال المعلنة وبدايات التّلويح برفع الحجر والاتجاه نحو ما وقع تسميته حينا حجرا ذكيّا وحينا آخر موجّه؟
الوقائع العبثية لا تقف عند هذه الحدود وتتجاوزها إلى التّكتّم عن الإفصاح عن أسباب التأخير الكبير في الإعلان عن نتائج العيّنات المرفوعة بسبب توّقف أهمّ مخبر ببلادنا عن الاشتغال (معهد بالستور) لأيّام جرّاء عطب أصاب آلَتَي التٍحاليل!!!!!
2- تنامي الفساد المالي والإداري تحت شعارات “الوحدة الوطنية” المزعومة و”الحرب على الكورونا”. والحقيقة أنّ هذا المتنامي أخذ أحجاما مخيفة وغير مسبوقة تحت حماية حكومية مكشوفة ووقحة أيضا. فصفقة “الكمامات” المفضوحة حسب رئيس الحكومة “اجتهاد” و”حكاية فارغة” يروّجها “المغرضون ومن يصطادون في المياه العكرة حسب قوله.
فالحرب على “الكورونا” والتّفويض الذي حصل عليه من قبل البرلمان وفق فهمه يُبيحان دوس القانون والإجراءات المتعلّقة بالصفقات العمومية ويسمح له ولأعضاء الحكومة بالتصّرف فوق كلّ مراقبة برلمانية وقضائية وبطبيعة الحال إعلاميّة وشعبية. فالأوضاع الاستثنائية و”الحرب” تتمّ بأيادي مطلقة ودون ضوابط دستورية وقانونية وأخلاقية قيميّة بما يحولّ مجمل هياكل الحكم إلى شريك فعلي في التستر على الفساد والإسهام النشيط عند البعض للإسهام في توسيع مجالاته ليصل إثقال كاهل المالية العموميّة بسيل من التعيينات العشوائية لفيالق المستشارين والمكلّفين بمهامّ.
فكلّ الخروقات وفضائح الفساد أصبحت “جرأة” بل طريقة لمقاومة البيروقراطية!!! (الفخفاخ) أوهي حسب السيّد “محمد عبّو” تجاوزات للإجراءات فقط دون تحقيق أرباح مادية!!! ضاربا عرض الحائط بتسريب كرّاس الشروط إلى المنتفع (برلماني) ممّا يؤكّد خرق القانون مرّة أخرى فيما يُعرف بتضارب المصالح.
فكلّ فضائح الفساد التي شغلت وتشغل الرأي العام مباحة مثلما أسلف في هذه الأوضاع الصعبة، وحُجَج تبريرها دوما جاهزة بما يطبّع مع الشكل المافيوزي للحكم.
3- توغّل أيادي أباطرة الاحتكار والتّهريب في التلاعب والإثراء الفاحش في قوت الشعب وحتّى المساعدات الاجتماعية للسلطة. فالموّاد الأساسية الغذائية تعرف ندرة في المدينة والرّيف على حدّ السّواء ممّا أسهم في ازدياد مظاهر الاحتقان الاجتماعي وبروز حركات احتجاجية في أكثر من جهة. كما أنّ ذاك الشّح لعب دورا حاسما في خرق الحجر الصحي المدفوع بقوّة الخصاصة وعدم الاطمئنان على قوت الغد وأبرز إلى الواجهة مشاهد مأساوية لجموع غفيرة تتدافع حدّ الموت لأحدهم من أجل بعض كيلوغرامات من “السميد” و”الفرينة” إضافة إلى طوابير طويلة أمام مكاتب البريد للحصول على منحة 200 دينار.
الاستثناء التونسي سيذكر بالفعل مسارعة الحكومة إلى اقتطاع يوم عمل للأجراء تحت قول “المدّ التضامني” وفتح حساب تبرعّات 1818 بما يعيد إلى الأذهان صندوق العهد البائد 2626.
و”المعجزة التونسية” فصولها الأكثر خطورة عدم إفصاح الحكومة مبكّرا عن خطّتها لرفع الحجر الشامل بما يرسّخ القناعة على نطاق واسع بأنّ حكومة “الفتيان الذهبيين” عازمة على المضيّ حتّى النهاية في دوس الإرادة الشعبيّة والاستهتار بحياة النّاس وإقحام البلاد والعباد في بوتقة مخاطر جديدة بالنّظر إلى غياب الشروط الدّنيا لتخفيف الحجر (تكثيف الاختبارات، توفير الكمامات…).
فالمهم بالنسبة إليهم دوران الماكينة الاقتصادية حتّى وإن كان ذاك الدّوران على حساب الأرواح البشرية.