ايناس سحبية
أجر زهيد، ساعات عمل تفوق الساعات القانونيّة وظروف عمل خطيرة تشبه ما انتفض بسببها العمال سنة 1886، وخلّدت يوم 1 ماي ليكون يوما عالميا للعمّال يذكّرنا بأنّ المستقبل لهم، يذكّرنا بأنّ الحقوق تفتكّ ولا تُهدى…
ظروف عمل تتطابق مع وضع عمّال وعاملات القطاع الفلاحي اليوم بتونس…
فهل حان وقت الانتفاض؟
لا يمكن أن نتحدّث عن العمل والعمال دون الحديث عن القطاع الفلاحي الذي يُعتبر قطاعا استراتيجيّا في كلّ بلدان العالم. فهو مرتبط أساسا بتوفير الأمن الغذائي وخلق الثروة، ممّا يضمن الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي. وتزخر البلاد التونسيّة بـ10 مليون هكتار من الأراضي الفلاحيّة المتراوحة بين الأراضي الزراعيّة والمزارع والغابات… ثروة طبيعيّة تجعل الاهتمام بهذا القطاع بديهيّا لا شكّ فيه… ولا شكّ أيضا في أنّ من يعرف تاريخ تونس يعلم أنّ حكّامها من قبل الاستقلال إلى اليوم لم يستثمروا تلك الثروة، بل همّشوها ورهنوها لمن يسكنون وراء البحار…
كما أنه من المعلوم أيضا أنّه في ظلّ سياسات التهميش والتفقير وانعدام العدالة وتكافؤ الفرص، تدفع الفئات الأكثر هشاشة الضريبة الأكبر… وفي ظلّ تدهور أوضاع القطاع الفلاحي تدفع المرأة الضريبة الأكبر وتُحرم من حقوقها الأساسيّة.
“الاضطهاد المؤنّث يوما بيوم”
“شاحنات الموت… فلم رعب لم نشاهده على شاشات التلفاز”
تتنقّل النّساء العاملات إلى أماكن عملهنّ في ظروف سيّئة ومرعبة، إذ أنّ عدم توفّر وسيلة نقل توصلهنّ يجعلهنّ رهينات “السمسار” الذي يقلّهم مِن وإلى مكان العمل بأجر زهيد وفي ظروف بشعة إذ تؤكّد العديد من العاملات أنّ “السمسار” يتعمّد سكب الماء أو فضلات الحيوانات على عربة الشاحنة ليجبرهنّ على الوقوف ويقلّ أكبر عدد ممكن من العاملات في رحلة قد تدوم طويلا وقد تُنهي حياتهنّ قبل الوصول. فعدد النساء الفائق لطاقة حمولة تلك الشاحنات المهترئة، وتردّي الطرقات وسلوك السّائق غير المسؤول في أغلب الأحيان وسرعته المفرطة تزيد من احتمال وقوع الحوادث.. هذه الحوادث التي تواترت في ظلّ صمت رهيب للدّولة وانعدام الإرادة السياسية لمعالجة الوضع وحماية العاملات…
“شاحنة الموت” هكذا أصبحت تسمّى وسيلة نقل العاملات… وقد خلّفت مئات الجرحى والموتى، حوادث تواترت على مرّ السنين: 16 أكتوبر 2016، بعد يوم من اليوم العالمي للمرأة الريفيّة، حادث انقلاب سيّارة تقلّ 34 عاملة… وها نحن نحيي يوم 27 أفريل 2020 الذكرى الأولى لحادثة السّبّالة من ولاية سيدي بوزيد التي أودت بحياة 12 عاملة وخلّفت 28 جرحى بعد انقلاب الشاحنة التي كانت تقلّ العاملات… حادثة طُبعت بصورة “الفولارة الخضراء” التي عُلّقت فوق المنازل لتوديع “دادا” لتوديع أمهات الدّوار.
تمرّ الذكرى الأولى دون إجراءات أو إنجازات تُذكر من قبل الدّولة لحماية النّساء… فقد بات التفاعل و”الاقتراحات” من قبل الحكومات “موسميّة” ومرتبطة باندلاع الحادث أو بمقترحات لا ترتقي إلى حجم الكارثة. ومن منّا لا يذكر تصريح وزيرة المرأة السابقة إثر حادثة السبّالة التي أعلنت عن إسناد قروض لشراء سيّارات خاصّة للعاملات الفلاحيّات اللاتي يملكن “رخص سياقة”، ذلك التصريح الذي أوضح بصورة أكبر الهوّة بين بنات وأبناء الشعب وبنات وأبناء القصور والسلطة… وما إن تمرّ مدّة على الحادثة حتّى تعود الأمور إلى ما كانت عليه سابقا، وتمرّ شاحنات موت أخرى وتدهس إطاراتها دماء عاملات أَرَدن العيش بكرامة.
“منذ انبلاج الفجر إلى غروب الشمس”،
في الشتاء، تخرج العاملات من منازلهنّ قبيل انبلاج الفجر ويعُدن إليها مع غروب الشمس، تمرّ على أجسادهنّ لفحات البرد القارس صباحا في الشتاء ولسعات الشمس الحارقة في الصّيف. تقضّين نصف ساعات اليوم في العمل. فقد أثبتت إحدى الدراسات أنّ 99% من النّساء العاملات في القطاع الفلاحي يعملن أكثر من تسع ساعات في اليوم (مدّة العمل المحدّدة في مجلّة الشغل)، كما أنهنّ يعملن أحيانا كامل أيّام الأسبوع -11 ساعة في اليوم- في فترات الجني أو البذر دون الحصول على مقابل لساعات وأيّام العمل الإضافيّة.
وبالطّبع فإنّ نصف اليوم يمرّ في العمل في الأرض ويترك النّصف الثاني للسّهر على تنظيف المنزل وغسل الملابس والأواني وتحضير “الكسرة” وما تيسّر من الأكل للعائلة.
“نجري…على نصف الأجر”
هكذا صرّحت إحدى العاملات وبيّنت أنّها تتقاضى 3د كأجر يوم عمل، بينما يتقاضى العامل 30د رغم أنّها تفوقه من ناحية المجهود وساعات العمل… يتلقّى العامل وجبة فطور ويوفّر تنقّله مجّانا، بينما تجلب العاملة طعامها وتدفع أجرة تنقّلها إلى الأرض. وفي أغلب الأحيان، تتلقّى العاملات أجرتهنّ من السمسار الذي يتعاقد مع صاحب الأرض ليوفّر له عاملات بمقابل ويضيف إليه أجرة نقلتهنّ التي يقتطعها من أجرتهنّ مباشرة. ولا تستطيع العاملات بأيّ حال من الأحوال معرفة القيمة التي اقتطعها السمسار.
ورغم تناقض هذه الظروف مع كلّ المعاهدات والاتفاقيات الداعية إلى إلغاء التمييز على أساس الجنس… تبقى هذه الوضعيّة على حالها دون أيّ تحرّك من مؤسسات الدولة المعنيّة بوضع النّساء… وهو أمر مفهوم، فالنظام الحالي رأسماله الوحيد هو المال والرّبح على حساب الإنسان…
“شاحنات الموت… ليست الشّبح الوحيد”
إنّ أضرار العمل الفلاحي في هذه الظّروف لا ينحصر في حوادث النقل. فأثناء العمل قد تتعرّض العاملات إلى حوادث جرّاء السّقوط من السلالم… أو الإجهاض بسبب طول ساعات العمل والوقوف لمدّة طويلة… كما أنّ استعمال مبيدات الحشرات بشكل غير مدروس يضرّ العاملات بشكل كبير ويؤدّي إلى أمراض مزمنة كالحساسيّة، ضيق التّنفّس وغيرها من الأمراض الصدريّة، العصبيّة أو الجسديّة كما أنّه يؤدّي إلى التسمّم وإلى الإصابة بالأمراض السرطانيّة…
ومقابل كلّ هذه الأضرار، تفيد الدراسات أنّه رغم أنّ 99% من النّساء المقيمات بمناطق فلاحيّة تعملن في مجال الفلاحة إلّا أنّ 12% فقط يتمتّعن بالتغطية الاجتماعيّة… أيّ أنّ أغلب العاملات الفلاحيات لا يتمتّعن بالضمان الاجتماعي ولا نظام جبر الأضرار النّاجمة عن حوادث الشغل والأمراض المهنيّة… كما أنّ 80% منهنّ يعملن دون عقود عمل في الفترات الموسميّة وطبعا دون راحة أسبوعيّة ولا تغطية اجتماعيّة… وقد أثبتت دراسة سنة 2017، أنّ 60% من النّساء العاملات في القطاع غير المنظّم تتكفّل بمصاريف علاجها، 17% عن طريق القرين و24% عبر التضامن العائلي أو العلاج المجّاني.
“عاملات الفولارة الخضراء…. يبتسمن في وجه الكورونا”
إن كان ما ذكرناه وما لم نذكره من أوضاع مزرية هو اليومي الذي تعشنه تلك العاملات فكيف الحال في زمن “الكورونا”؟ كيف يعشن وقد نسِيَتْهُنّ المنابر الإعلاميّة والإجراءات الحكوميّة للتصدّي للوباء…
في هذه الفترة العصيبة، تعتبر العاملات في المزارع والأراضي الفلاحيّة جنودا للوطن إلى جانب عمّال قطاع الصحّة وغيرهم من المليون ونصف عامل من أجل بقيّة المواطنات والمواطنين. “نحن فخورات بذلك”، تقول إحدى العاملات… وبعض العاملات لم تخترن كسر الحجر الصحّي العام، “لا خيار لنا سوى العمل فإن توقّفنا نموت جوعا قبل أن تقتلنا الكورونا”. ومن أجل أجر زهيد تُخيّر العاملات العمل لتعلن عائلاتهنّ… خاصّة وأنّ الحكومة لم تشملهن بإجراءات تحميهنّ ولم تدرجهن من بين المتمتّعين بالمنحة الاجتماعيّة لتبقى ملفّاتهنّ رهينة قبول العمدة أو الشيخ من عدمه”
في ظلّ الوضعية والعمل سواء كخيار أو إجبار، تفتقر العاملات إلى أبسط الأساسيات للوقاية من الوباء. فهنّ يعملن بلا قفازات ولا أقنعة رغم أنّهن معرّضات لتلقّي العدوى. “كلّ يوم أعود فيه إلى المنزل أخاف أن أكون حاملة للفيروس وأُعدي أبنائي ولكن ليس باليد حيلة”.
إنّه من المؤلم أن يقايض الإنسان بين الموت جوعا أو الموت بالوباء… ولكنّه غير مستغرب من أنظمة سياسيّة ترى المال والأرباح قبل الأرواح وتتوجّه سهامها نحو الفئات الأكثر ضعفا وهشاشة لتفرض عليها وتملي عليها ما يخدم مصلحة رأس المال والمؤسسات الكبرى…
إنّ عدم تنظيم القطاع الفلاحي الموسمي وإبقاء مقترح القانون عدد 2019/02 المتعلّق بتنظيم النقل البري الرامي إلى إنشاء صنف جديد خاص بالعملة في القطاع الفلاحي وانعدام الرّقابة ليس سوى تعبيرة عن الوجه الحقيقي للنظام الليبيرالي الذي لا تعنيه سوى السّلطة وتكديس الأرباح على حساب شقاء الفئات الكادحة والمهمّشة.
لذلك تبتسم العاملات الفلاحيات كلّ يوم للفيروس… فويلُ ما يعشنه كلّ يوم أشدّ سوءً منه… وويل سياسات الدولة التي تتعمّد تهميشهنّ وتفقيرهنّ أكثر شراسة من الفيروس… وويلُ شاحنات الموت أسوء منه….