عادل ثابت
ما فتئت أوضاع المهاجرين غير النظاميّين في فرنسا، وباقي البلدان الأوروبية، تتدهور أكثر فأكثر منذ انتشار وباء “الكورونا”. وقد تفاقم ذلك بصفة خاصة مع انطلاق الحجر الصحي الشامل. ممّا أدّى بعديد الأصوات إلى الارتفاع في المدّة الأخيرة للمُطالبة بتسوية أوضاعهم الإدارية وتمكينهم من “الأوراق” لحفظ كرامتهم وضمان حدّ أدنى من الحماية الصحية والاجتماعية لهم.
من هم المهاجرون غير النظاميّين؟
يقدّر عدد المهاجرين غير النظاميّين بـ500 ألف في فرنسا وحوالي 4 ملايين في أوروبا كلّها. غادر جلّهم موطنه الأصلي من جرّاء الفقر والحروب والتغيّرات المناخية التي أجّجتها العولمة الرأسمالية المتوحّشة في العقود الأخيرة. وخِلافا لما يذهب إليه الاعتقاد البسيط بأنّهم عالة على المجتمع وخزّان للانحراف، فإنّ الواقع مخالف لذلك تماما، حيث يمثّل العمال الغالبيّة الساحقة منهم. وهم غالبا ما يعملون في ظروف هشّة ويتعرّضون إلى استغلال مُضاعف دون التمتّع بكامل الحقوق التي ينصّ عليها قانون الشّغل رغم أهمية القطاعات التي يشتغلون بها (البناء والأشغال العامة، المطاعم والنّزل، النظافة، الفلاحة…).
بعد تبنّي جمعيّات الهجرة والمنظمات الحقوقية والأحزاب اليسارية تاريخيّا لمطلب تسوية إقامة المهاجرين غير النظاميين، دخلت نضالات هؤلاء في فرنسا خلال النصف الثاني من العقد الفارط طورا جديدا عبر التحاقهم بالعمل النقابي، حيث انتظموا داخل الكونفدرالية العامة للشغل (CGT) أساسا. شنّ هؤلاء العمال حركة إضرابية مفتوحة، أساسا في المطاعم والنّزل والنظافة، انطلقت في 15 أفريل 2008، دامت عدّة أشهر وتوسّعت لتشمل المئات منهم، وقد تُوِّجت بتسوية 2000 حالة وفتحت بذلك باب الإقامة القانونية (“الأوراق”) عبر الشّغل. ومنذ ذلك التاريخ تعدّدت إضرابات العمال المهاجرين غير النظاميّين في فرنسا، وقد كان أهمّها حركة إضرابات 2010 – 2011 التي دامت 18 شهرا.
أوضاع مهنيّة واجتماعيّة تزداد سوءً بسبب وباء “الكورونا”
يواجه العديد من العمّال المهاجرين غير النظاميّين، العاملين في قطاعاتٍ كالسلامة والمساحات الكبرى والنظافة وخدمات التّوصيل، الوباء في الصّف الأول. وهم بذلك يساهمون في حماية الصحة العامة والحفاظ على الأرواح. إلاّ أنهم، على غِرار عموم العاملين في القطاعات الحيويّة التي استمرت في النشاط، يعملون في عديد الأحيان دون توفّر شروط الوقاية والحماية الصحية (كمامات، سائل معقم…)، ويجدون أنفسهم مُجبرون على القبول بالأمر الواقع جرّاء أوضاعهم الهشّة، ناهيك أنهم لا يتمتّعون بالتغطية الاجتماعية وسائر الحقوق في حالات المرض أو فقدان الشّغل.
وعِوض حماية هذه الفئة وتمكينها من حقوقها المشروعة (وذلك ليس منَّةً من أحد عليها)، فهي لا تزال إلى حدّ الآن مقصيّة تماما من إجراءات “الحرب” على الفيروس، ولم يتطرّق إليها لا “ماكرون” ولا رئيس حكومته ولو مرّة واحدة في خطاباتهما. بل إنّ ما يجري هو العكس تماما، حيث يتواصل حبْس العديد من المهاجرين دون إقامة قانونية في مراكز الاحتفاظ (centres de rétention) مراكز مخصّصة للاحتفاظ قبل التّرحيل نحو البلد الأمّ)، رغم ما يمثّله ذلك من خطر العدوى بالوباء بسبب الضّيق وعدم توفّر الشّروط الصحية، ورغم أنه لن يقع ترحيلهم بسبب توقّف الرحلات الجوية.
قرارات إيجابيّة في بعض البلدان الأوروبيّة الأخرى…
لقد بادر البرتغال، في إطار مواجهة الوباء، إلى تمكين المهاجرين غير النظاميّين، الذين تقدّموا بمطلب في الغرض قبل 18 مارس، من إقامةٍ قانونية مؤقّتة إلى موفّى شهر جوان. أمّا في إيطاليا، فيبدو أنّ النيّة تتّجه نحو تسوية أوضاع 600 ألف مهاجر حسب تصريح وزيرة الفلاحة تيريزا بلانوفا.
خِلافا للبرتغال، حيث كانت الدّوافع صحية وإنسانية، فإنّ الأمر في إيطاليا مُرتبط بمصالح اقتصاديّة بحتة تتعلّق بتوفير اليد العاملة الضّرورية في الفلاحة خصوصا، أي لإنقاذ الموسم الفلاحي والمحاصيل من التّلف بسبب النّقص في اليد العاملة الفلاحية المتأتّية من أوروبا الشرقية خصوصا والتي لن تتمكّن من القدوم هذه السّنة بسبب غلق الحدود، وما قد ينجرّ عن ذلك من تهديد جدّي للأمن الغذائي في إيطاليا خصوصا بعد أن أوْدى الوباء بحياة الآلاف هناك.
رفع المظلمة حقّ وضرورة صحّيّة
بالنظر إلى كلّ الأسباب المذكورة أعلاه، تعدّدت خلال الأسابيع الأخيرة في فرنسا نِداءات غلْق مراكز الاحتفاظ وتمكين المهاجرين من وثائق الإقامة القانونية حِفظا لصحّتهم واعترافا بحقوقهم.
آخر هذه النّداءات صدر عشيّة 1 ماي بتوقيع أكثر من 170 حزبًا ونقابة وغيرها من الجمعيات والمنظمات الحقوقية. وقد تضمّن دعوة للتّظاهر يوم 30 ماي للمطالبة بحماية المهاجرين غير النظاميّين من الوباء وتسوية وضعيّتهم الإدارية. هذه الحركة قابلة للتطوّر وخلق المدّ التضامني الضّروري لكسْب المعركة حتى يكون “عالم ما بعد الكورونا” بالنسبة إلى هذه الفئة من العمال المهاجرين مختلفا عن “عالم ما قبل الكورونا” وأفضل على الأقلّ من الناحية الإدارية.