ألفة البعزاوي
تتعدّد مظاهر بشاعة وصلف النظام الرأسمالي. ولئن تمّ تناول وتفكيك العديد منها بإطناب كبير (تدنّي الأجور، البطالة…) في عدّة دراسات وموضوعات تناولا يُماهي في بعض الأحيان عملية تشريح للظاهرة، فإنّ بعض هذه المظاهر بقي مسكوتا عنها وإن تمّ التّطرق إليها فبشكل عرضي-سطحي قد يحيل إلى التقليل من قيمتها.
لِنلمط اللثام عن أحد أبرز هذه المظاهر التي نلحظ شحا شديدا في تناولها: التفكك الأسري.
فالنظام الرأسمالي يعبّر عن نفسه بشكل جليّ من خلال تفكّك العلاقات الإنسانية وهذا التفكّك لا يستثني الأسرة بل يطالها تحديدا كعنصره أو وحدته الأصغر.
لطالما تشدّق منظّرو البورجوازية بفضل الرأسمالية على النساء من خلال “إخراجهن” للعمل. وبالتالي إدماجهن في عجلة السوق، وعلى العائلة من خلال تفكيك العائلة البطريركية التقليدية وإحلال العائلة النواتية الفردية محلها لتكون، حسب ادّعائهم، العلاقات بين أفرادها أمتن بالنظر إلى تقلّص عددهم من جهة وإلى استقلاليتهم في الدخل والمسكن من جهة ثانية. وهم يحاولون تغطية الوجه البشع لنظامهم بقناع الحرية والمساواة أمام القانون.
إنهم مهما حاولوا إيهامنا بالاستقلالية والحرية فنحن نرزح في الحقيقة تحت مصقلة رأس المال. ومهما زعموا من مساواة فإننا نعلم علم اليقين أن لا شأن لقوانينهم بالاضطهاد الاقتصادي الذي يمثل مدخلا لإجبار الفرد على التنازل عن آخر شعيرات المساواة في الحقوق. فقانونهم لا يذكّر بأيّ كلمة وضع الطرفين المتساويين (أمام القانون) الاقتصادي الفعلي. ماذا عن السلطة التي يخوّلها اختلاف الواقع الطبقي لفائدة أحد طرفي المعادلة؟
لمحة عن التّطوّر التّاريخي للعائلة
يقول “لويس مورغان” في مؤلفه المجتمع القديم: “إنّ العائلة عنصر نشيط فعّال. فهي لا تبقى أبدا كما هي عليه بدون أن تتغير…” هذا يفيد أنّ مؤسسة العائلة، كما ذهب إليه “ماركس” هي “ظاهرة اجتماعية لها تاريخها كما أنّ لها مستقبلها شأنها شأن كلّ الظواهر التاريخية، شأن كلّ المؤسسات الاجتماعية الأخرى”. وهي لم تعرف شكلا واحدا أوحدا. بل عرفت العديد من التطورات والتغيرات بالموازاة مع التغيرات التي عرفتها علاقات الملكية داخل المجتمع، فكان لكل نمط إنتاج شكل العائلة الذي يناسبه.
ورغم أنّ تناول هذا التطور منذ مراحله الأولى هو من الأهمية بمكان، وهو موضوع يجب تناوله بتمعّن لفهم السياق التاريخي لتطور شكل العائلة. سأنطلق هنا منذ ظهور الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج. إذ أنه بانتصار هذه الملكية الخاصة على الملكية المشتركة البدائية والعفوية، ظهرت حاجة الزوج (السيد) إلى ولادة أبناء من صلبه، ثابتو الأبوة، ليَرِثُوا الثروة التي كان يكدّسها. فتشكّلت في هذا الإطار العائلة البطريركية القائمة على الزواج الأحادي (بالنسبة إلى المرأة فقط) ومعها فَقَدَ الاقتصاد البيتي شيئا فشيئا الطابع الاجتماعي الذي كان يكتسيه (حيث كان يعتبر سابقا ضربا من ضروب النشاط الاجتماعي الضروري للمجتمع برمّته) وانتهى إلى خدمة خاصة استحالت معها الزوجة إلى خادمة رئيسية أقصيت عن الاشتراك في الإنتاج الاجتماعي. ثم جاءت الصناعة وظهور العمل المأجور لتفتح أمام المرأة سبيل العودة إلى الإنتاج الاجتماعي من جديد، لكن بشكل أكثر تعاسة: لتستغلها أبشع استغلال على مستوى ظروف العمل والأجور وساعات العمل… بحثا عن الربح ولا شيء غيره.
إنّ النظام الرأسمالي الذي أقرّ مبدأ أحادية الزواج وفككّ العائلة البطريركية التقليدية لفائدة العائلة النواتية الفردية قد حوّل هذه العائلة إلى وحدة اقتصادية لا تهمّ هذه المنظومة إلاّ بقدر خدمة أهدافها الرأسمالية من خلال توفير اليد العاملة (أصبحت العائلة نواة لتفريخ اليد العاملة) والحاجة إلى اقتناء البضائع (العائلة وحدة استهلاكية).
من هنا يمكننا الانتهاء إلى أنّ نموذج الأسرة الرأسمالي لم يرتكز على الشروط الطبيعية ولم يجعل مؤسسة الزواج اتحادا اختياريا بين الرجل والمرأة قوامه الحب والعاطفة، إنما واصل الارتكاز على الشروط الاقتصادية (شأنه في ذلك شأن النماذج السابقة تاريخيا). بل وبشكل أكثر سفورا من غيرها من النماذج، ما أنتج مزيدا من التفكك الأسري وضعف الجوهر الإنساني المشترك لصالح المصلحة الخاصة لكلّ فرد يبلغ حدّ البراغماتية في عدة أحيان وغياب التواصل بين الأفراد وضعف الاستقرار وصولا إلى نسف الأساس الأسري في حد ذاته لدى بعض مفكري البورجوازية (الفكر النسوي نموذجا).
النّيوليبراليّة وتعميق معاناة الأسر الكادحة
أدّت الأزمات المتعاقبة التي شهدتها المنظومة الرأسمالية خلال العقود الثلاثة الماضية إلى إعادة إحياء الليبرالية الاقتصادية وصرنا اليوم مع العولمة السريعة للاقتصاد الرأسمالي نشهد هذه الليبرالية الجديدة على نطاق عالمي. إنّ أسس هذا المذهب، إذ ترتكز على نقاط أساسية أبرزها تخفيض الإنفاق العام على الخدمات الاجتماعية كالتعليم والصحة تحت عنوان تقليص دور الدولة واستهداف برامج الرعاية الاجتماعية والدعوة المشطة للخوصصة التي تشمل المصانع والمصارف وحتى الطرقات والكهرباء والماء والمدارس والمستشفيات والقضاء على مفهوم المصلحة العامة واستبدالها بمفهوم “المسؤولية الفردية”… من شأنه مزيد تركيز الثروة في أيدي قلة من الناس وجعل الجماهير تدفع أكثر للحصول على احتياجاتها ومزيد الضغط عليهم لإيجاد حلول لفقرهم من تلقاء أنفسهم ولومهم بعد ذلك إن فشلوا.
إنّ هذا النموذج الذي عاد لاكتساح العالم من جديد بعد أفوله فيما مضى من شأنه أن يعمّق العقلية الفردية ويضرب عرض الحائط ما تبقّى من قيم وعلاقات إنسانية ولن تكون الأسرة بمنأى عن مرمى هذه الأفكار. بل على العكس من ذلك فالنيوليبرالية تزيد من شقاء العائلات الكادحة بنفي أيّ دور اجتماعي عن الدولة، وهي بذلك تفتح الباب على مصراعيه أمام مزيد المعاناة، مزيد التفكك بل الانفصام الأسري (من ذلك تنقّل أفراد الأسرة إلى مختلف أصقاع العالم أو حتى في أجزاء متباعدة صلب نفس الدولة بحثا عن مورد رزق) والقضاء على بقايا الدفائن الاجتماعية التي قد تكون حافظت بشكل ما وفي حالات شاذة على هامش إنساني.
لنضرب هنا مثالا نعيشه اليوم، أدّى انتشار جائحة الكورونا إلى جمع أفراد الأسرة المفكّكة من الأساس نتيجة لنمط الإنتاج السّائد من جديد تحت سقف واحد لمدّة تتجاوز المدة الضرورية لإعادة إنتاج الطاقة اللازمة للعمل. فأدّى هذا الجمع القصري إلى الصراعات وكنتيجة مباشرة تضاعف العنف المسلط على النساء.
شرط تحرّر المرأة وإعادة تشكيل الأدوار الاجتماعيّة المنشود
العائلة الفرديّة الحالية ترتكز على عبودية النساء اللاتي إن قمن بواجباتهن في العائلة عجزن عن تحصيل أجر مستقلّ، وإن شئن الاشتراك في العمل الاجتماعي والحصول على أجر مستقل عجزن عن أداء واجباتهن العائلية.
إنّ الشرط الأول لتحرّر المرأة هو دخول جنس النساء بكليته إلى الإنتاج الاجتماعي. أمّا الشرط الثاني الذي ينبغي أن يلازم الأول ويقترن به فهو جعل الاقتصاد البيتي فرعا من فروع النشاط الاجتماعي لتصبح على سبيل المثال الأمومة وظيفة اجتماعية والعناية بالأطفال وتربيتهم من شؤون المجتمع برمته وهو ما من شأنه القضاء على العائلة الفردية بوصفها وحدة اقتصادية في المجتمع لتحل محلها أسرة قوامها الحب الحقيقي والعاطفة والاختيار الحر للزوج خارج كل اعتبار مادي.
إنّ هذا الشكل المنشود لا يمكن تحقيقه إلاّ صلب مجتمع جديد خال من الطبقية والاستغلال.