في تطوّر ملفت للسّجال الحاصل تحت قبّة البرلمان واحتدام النقاش بين كلّ من النائب عن حركة الشعب هيكل المكي ورئيس المجلس راشد الغنوشي وكذلك رئيس الكتلة السيد نورالدّين البحيري بعد أن تطرّق الأوّل إلى الأوضاع في ليبيا وسوريا وانخراط بعض الأحزاب في مخطّطات التجزئة الإقليمية وأنّ رئيس حركة النهضة هو زعيم تنظيم الإخوان المسلمين في تونس، وهو ما أجّج حملة على الفضاء الافتراضي وصلت حدّ تهديد النائب المكي، ضمّنها في رسالة إلى رئاسة المجلس. وقد ردّ النائب سالم الأبيض في وقت متأخّر من ليلة أمس الأحد في رسالة مطوّلة وجّهها إلى النائب نورالدّين البحيري.
وقد تابع روّاد التواصل الاجتماعي النقاش والتعاليق التي رافقت هذه الرسالة وانخرطت فيها قواعد الحزبيْن بالرّدود والتعاليق، ولم يتوقّف السّجال عند حدّ هذا الحدّ، بل أخذ منْحى عنيف بكيْل اتّهامات واتهامات مضادّة لهذا الفريق أو ذاك. ولعلّ انفجار هذا النقاش في هذا التوقيت يعكس أنّ قطيعة بين حزبي الائتلاف الحاكم بصدد التشكّل في الأفق.
صوت الشعب
نص الرسالة
الحمد لله وحده
هذه رسالة إلى زميلي نور الدين البحيري رئيس كتلة حركة النهضة الإسلامية
على خلفية ما كنت دوّنته يوم 30 أفريل المنقضي، ومشاركتك في الهجمة الإسلامو-سياسية الشّرسة على النائب هيكل المكي وعلى حركة الشعب، وسؤالك الوزير محمد عبو عن علاقة طرف من الائتلاف الحكومي بالإرهاب تلميحا منك إلى حركة الشعب، ومثلما اعتدتُ الإنصات إلى مداخلاتك بمجلس النواب على مدى خمس سنوات أو يزيد، فأنت تتكلم كثيرا حدّ الثرثرة أحيانا، لتقول أقوالا سطحية فلا تنتج معاني ودلالات حقيقية أو تمتلك حججا وأدلة وبراهين جدية.
بربك وربي وربّ الناس جميعا، وفي هذا الشهر الفضيل الذي تُصفّد فيه الشياطين، ألم تقرأ عن اعتقال الشيخ المجاهد عبد العزيز الثعالبي بباريس وإرجاعه إلى تونس مكبّل اليدين والزج به في السجن على خلفية مطالبه الوطنية التي نشرها في كتابه الموسوم “تونس الشهيدة” سنة 1920؟ وهل رأيت أو سمعت عن مجاهد، بالمعنى السياسيّ للجهاد أو حتى بمعناه الديني، قاوم الاستعمار وزبانيته، ودافع عن وطنه وعرضه وشرف شعبه مثل عمر المختار، أو تصدّى للاحتلال ومات من أجل الأرض المقدسّة أولى القبلتين وثالث الحرمين كما هو شأن الشيخ المجاهد أحمد ياسين، لقي حظوة وتبجيلا وحماية دولة أروبية، أو غربية، وقضّى منفاه في عاصمة الإمبراطورية الاستعمارية القديمة التي لا تغيب عنها الشمسُ، حتى طاب له المقام طيلة عشرين سنة كاملة، متنقلا بين كثير من عواصم العالم، مكرّما مبجلا مشاركا في المؤتمرات ومسموع الكلمة لدى حكومات ودول ومراكز النفوذ ودوائر إقليمية ودولية بما في ذلك منظمة الأيباك الصهيو-أمريكية؟ ألم تطّلع على حوار راشد الغنوشي في جريدة الشروق الجزائرية بتاريخ 15 سبتمبر 2010 الذي يقول فيه وهو يشيد بالدول التي آوت أنصاره وناشطي حزبه من طالبي اللجوء “تعتبر شهادة الانتماء المسلّمة للنهضوي طالب اللجوء موقّعة من رئيس النهضة وثيقة أساسية في قبول مطلبه”، فالمجاهدُ الحقيقيُّ –اقتباسا من عمر المختار- لا يولّي الدبر، فإمّا أن يستشهد أو أن ينتصر. وهكذا كان أمر صدام حسين ومعمّر القذافي وحتى المنصف باي الذي لقي ربه شهيدا في سجن بو الفرنسي.
ومن بين العواصم التي كان يزورها الشيخ راشد الغنوشي مبجلا ذا حظوة هي العاصمة الليبية طرابلسَ، والعهدة على الصافي سعيد في كتابه “القذافي سيرة غير مدنّسة ط 1، 2018 ص 386″، . فقد كان الغنوشي يجالس القذافي وقد يكون صلّى وراءه خاصة بعد تأسيس الجبهة القومية الإسلامية التي ترأسها العقيد القذافي نفسه وتولى أمانتها العامة الزعيم الإسلامي حسن الترابي الصديق الشخصي للغنوشي، الذي نسج كذلك علاقة خاصة مع سيف الإسلام القذافي، والذي كانت تربطه به صداقة كبيرة، جعلته يتدخل لدى نظام بن علي لصالح حركة النهضة والغنوشي شخصيا، وفق ما جاء في مقال جريدة القدس العربي “راشد الغنوشي يشيد بدور القذافي في دعم الثورة الشعبية”، المنشور على الرابط التالي: راشد-الغنوشي-يشيد-بدور-القذافي-في-دعم https://www.alquds.co.uk/
وفي السياق ذاته كتبت جريدةُ دنيا الوطن الفلسطينية بتاريخ 5/7/2012 تحت عنوان ما سرّ علاقة القذافي براشد الغنوشي؟ رابط المقال:https://www.alwatanvoice.com/arab…/content/print/294286.html ) ما يلي: “نقلت مصادر جزائرية أنّ الزعيم الليبي معمر القذافي لم يكن يدّخر جهدا في مساعدة المطاردين ومن بين هؤلاء رموز حركة النهضة التونسية الذين كانوا في السجون والمنافي ووصلوا إلى الحكم بعد الثورة” وأضاف المصدر “إن المفارقاتِ العجيبة أنّ رئيس الوزراء الليبي السابق البغدادي المحمودي هو الذي كان يتوسّط ويعمل على إيصال المساعداتِ المالية التي كان يقرّرها العقيدُ لرموز حركة النهضة ومن أمثال رئيسها راشد الغنوشي وحمادي الجبالي”. وأضافت “وبحسب نفس المصدر، فان راشد الغنوشي كان من أبرز الشخصيات التي يعتمد عليها معمر القذافى”.
يمكن لهذه المعطيات أن تفسّر لنا أسباب عقدة الذنب التي يشعر بها رئيسُ حركة النهضة تجاه معمر القذافي، الذي احتفل وحركتَه بسقوط نظامه واستشهاده على أيدي قوات الحلف الأطلسي، ونُكّل بجثمانه أيّما تنكيل في مشهد دراميٍّ لا يفوقه مأساوية إلا ذبح الرئيس العراقي صدام حسين يوم عيد الأضحى المبارك، ولذلك فهو يحاول التكفير عن ذنبه، باحثا له عن دورٍ في الصراع الليبي-الليبي.
وقبل أنْ يتوجه النائب هيكل المكي من أعلى منبر مجلس النواب بتحية “الجيش الوطني الليبي” الذي يقوده خليفة حفتر، كانت للغنوشي وساطاتٌ ولقاءاتٌ بفرقاء الصراع الليبي بمن في ذلك ممثلي حفتر وجيشه وحكومته ومقرّها طبرق وبنغازي اعترافا منه بشرعيتهم، وبمن ينتمون إلى نظام العقيد القذافي وأنصاره، مشيدا باللقاءات التي كانت تجمع فصائلَ الإسلام السياسي الليبي بأعيان ليبيين وقياداتٍ محسوبة على المعسكر المناوئ لحكومة فجر ليبيا سابقا والوفاق حاليا. تمّ ذلك في لقاءاتٍ جمعتهم في تونس بحضور الغنوشي نفسه وأخرى في العاصمة السنغالية دكار في شهر ماي 2018. وإلاّ بمَ يفسّر لنا راشد الغنوشي لقاءه عقيلة صالح رئيس البرلمان الليبي في الأردن مطلع فيفري 2020، ودعوته إلى زيارة تونس، وذلك على هامش انعقاد مؤتمر الاتحاد البرلماني العربي، وهو الذي أبلغ الغنوشي بـ” انعدام شرعية حكومة السراج وعدم اعتراف البرلمان الليبي بها، وبالحق المكتسب والثابت للقوات المسلحة في مكافحة الإرهاب وفرض الأمن والنظام العام” حسب ما نشرته وكالة تونس إفريقيا للإنباء بتاريخ 8/2/2020، أليس ذلك اعترافا صريحا بهم وبشرعيتهم؟
فلماذا هذا التحاملُ والتهجم على النائب هيكل المكي وتهديده بل وتكفيره، بينما الوقائع السياسية تثبت أنّ زعيم النهضة هو من فتح بلقاءاته ووساطته باب شرعية حفتر و”جيشه الوطني”، فهل يوجد شك في أن عقيلة صالح هو الوجه الآخر لحفتر، وهو الذي يؤمن شرعية برلمانية وأخرى إقليمية ودولية، إضافة إلى أنّ الغنوشي كان سابقا على علاقة بالعقيد القذافي نفسه وبنظامه وابنه سيف الإسلام في الوقت الذي يتحالف مع معارضيه من جماعات الصلابي والمقريف وبلحاج وغيرهم، وتلك هي الرابطة الأصلية. أما غيرها من الرّوابط فليست سوى مناورات ولعبة مصالح وقتيّة.
هي رابطةُ الجماعة والتمكين، التي تجلت بعد أن وصّفت بدقة في المجلد الثاني من كتاب الحالة الدينية في تونس 2011-2015 إشراف منير السّعيداني واحميدة النّيفر ونادر الحمامي الصفحة 167 حيث جاء ما يلي “بعد الإطاحة بالرئيس بن علي وصدور العفو التشريعي العام تمّ الإفراج عن المساجين السلفيين التكفيريين واستؤنف الحوار بين قياداتٍ من حزب النهضة وقيادات من جماعة أنصار الشريعة ويظهر أنّ الاجتماعات والاتصالات لم تنقطع بين الطرفين”.
هذه العلاقة الخفية والظاهرة بحسب المرحلة التاريخية، فصّل فيها القول وأطنب تقرير هام نشرته مجموعة الأزمات الدولية سنة 2013 في 43 ص وهذا رابطه https://d2071andvip0wj.cloudfront.net/tunisia-violence-and-… .
لقد فكك التقريرُ المشار إليه أعلاه بإطناب وحرفيّة كبيرة مسيرة جماعات الإسلام السياسي العنيفة بداية بالجبهة الإسلامية التونسية التي نشأت في أفغانستان سنة 1986 ونظمت عملية اغتيال أحمد شاه مسعود، مرورا بتنظيم القاعدة فرع تونس الذي نظّم عمليتيْ جربة 2002 وسليمان 2006-2007 وصولا إلى الجماعة التونسية المقاتلة التي أسّسها سيف الله بن حسين المكنى بأبي عياض، وهو الشخص ذاته الذي أسس تنظيم أنصار الشريعة الذي نظم اغتيال الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي وغيرهم من شهداء الجيش والأمن الوطنيين. لكن التقرير لا يكتفي بتفكيك نشأة هذا التنظيم والوقوف عند نموه وأهم خصائصه، والوقوف على موجة تسفير آلاف الشباب التونسي للقتال في سوريا، والذي سيندمج لا حقا في تنظيم الدولة الإسلامية داعش وينظم عمليات باردو سوسة والحرس الرئاسي و7 مارس 2016 الإرهابية ببنقردان، وإنما يعتبر أنّ تصريح رئيس حركة النهضة الذي انتشر على نطاق واسع قد مهّد الطريق أمام مثل هكذا جماعات. جاء في نص التقرير ” في 10 أكتوبر 2012 ظهر على الانترنت مقطع فيديو يظهر نقاشًا بين الغنوشي رئيس الحزب ومجموعة من السلفيين وأحدث ردّ فعل من قبل غير الإسلاميين، خاطب الغنوشي السلفيين مستعملا ضمير المتكلم “نحن” وشرح أنّ عليهم أنْ يكونوا صبورين وأنّ الحكومة لنا وأنه ينبغي أخذ الحيطة من النخبة العلمانية التي تسيطر على الجيش والشرطة والإدارة وأنه سيكون من المفيد تعزيز جمعياتنا وخدماتنا التعليمية وذلك من خلال ترسيخ أنفسنا في سائر أنحاء البلاد”.
هذا الخطاب الذي لم يميز فيه الغنوشي بين النهضة والسلفية، بقي يمثل مرجعا ومنهجا في التعاطي مع الدولة ومؤسّساتها لدى رئيس حركة النهضة حتى وقوف علي العريض رئيس حكومة الترويكا الثانية متأخرا على خطورة تنظيم أنصار الشريعة وما شابهه بعد أن تلظّى بنيرانهم، ما جعله يصنّفهم سنة 2013 بعد اغتيال البراهمي وجنود الشعانبي تنظيما إرهابيا، فقد كان الغنوشي يعتقد وأظنه ما يزال على نفسِ الموقف وهو أنّ “السلفية هي موجة عابرة مباركة وما فيها من أشواك وهي ليست إلا انعكاسا لعنف السلطة ومع الزمن وانفتاح الوضع سيستعيد المجتمعُ التونسي أبناءه”. وأضاف “أعتقد أنّ القيادات السلفية التونسية ستمرّ بمرحلة المراجعة وستجد نفسَها مضطرة للتأقلم مع الواقع التونسي حتى تستوي مع معادلة أخرى” (الحالة الدينية في تونس ص167). نعم ها قد راجعوا خياراتهم والتزموا معادلة وحيدة جسّدها قولهم “جيناكم بالذبح”، فأستشهد بلعيد على يديْ القضقاضي والبراهمي على يدي أبو بكر الحكيم الذي تبنى وفصّل الحديثَ في تنفيذ عمليتيْ الاغتيال في حوار معه نشرته مجلة دابق في نسختها الانقليزية عدد 8 لسنة 2015 لسان حال تنظيم الدولة الإسلامية داعش، واستشهد آخرون كثيرون من الأمنيين والعسكريين والنفوس البريئة في مختلف مدن تونس وحواضرها وأريافها.
هذه هي حقائق الأمور المتعلقة بـ”الشيخ المجاهد” وبما يجري في ليبيا من صراعات بين الأخوة الأعداء، وحقيقة الإرهاب ومن وضع له نظرية وامتهنه صنعةً. كان على رئيس كتلة حركة النهضة أنْ يدركها، وهو يدركها فعلا، وكل من تكلّم فيها أو اتخذ منها موقفا، مجتمعة أو منفصلة، اختلف فيه مع حركة النهضة هتك الجيشُ الافتراضي النهضاوي المنظم عرضه ونال من شرفه واعتدى عليه وعلى عائلته وعلى كرامته ولفّق له الأكاذيبَ وروجّ حوله الإشاعاتِ وكفّره وهدده بالقتل..
كفّوا أذاكم عن التونسيين والتونسيات وعن كلّ من خالفكم الرأي والفكرة والموقف، قبل أنْ تتحدثوا عن شراكة الحكم وغيرها من المبررات التي تلجمون بها أفواه الناسِ، وتمارسون من ورائها الرذيلة السياسية مثل المشاركة في الحكومة ولعب دور المعارضة البرلمانية، بل والتحالف معها في الآن نفسِه. إن اختلافنا معكم هو اختلاف أخلاقيٌّ بالأساس قبل أن يكون تمايزا سياسيا، فهو اختلافٌ حول الالتزام بمكارم الأخلاق كما نصّ على ذلك الرسول الأكرم صلّى الله عليه وسلم في الحديث الشريف، وهو اختلافٌ حول المبادئ والقيم. فنحن لا نرى الدولة غنيمة للنهب وتحقيق المكاسبِ كما ترونها أنتم، ولا نرى في التمكين وسيلة للفوز بالمناصبِ والمغانم. للأسف أنتم تعيدون إنتاجَ تجربة التجمع الدستوري الديمقراطيّ في التعامل مع الدولة، ولكن هذه المرّة في شكل مهزلة أو مأساة، تجربة قامت على ثقافة العائلة والغنيمة ( كما هي مدونة في رسالتيْ الاستقالة للقياديين النهضويّين عبد الحميد الجلاصي وزبير الشهودي). فهل من استفاقة وصحوة ضمير؟