سليم غريس
عضو الجامعة العامة للتعليم الأساسي
هل كان على البشرية قاطبة أن تنتظر هذا الوباء لتقف على حقيقة ما فعلته الليبيرالية المتوحشة بالشعوب؟
لقد كشف وباء كوفيد-19 حجم الجرم الاقتصادي والاجتماعي الذي سبّبه مشروع الإصلاح الهيكلي أواسط الثمانينات، ثم اتفاق الشراكة الأوروبية أواسط التسعينات وما تبعهما من خيارات مملات من جهات أجنبية. إذ استفاق التونسيون مثلا على ضعف المنظومة الصحية العمومية وإنهاكها المتعمد لسنوات طويلة. فانكشفت البنية التحتية المهترئة وغياب التجهيزات الضرورية ومحدودية الرصيد البشري جرّاء سياسة تجفيف الانتداب، إضافة إلى الأوضاع المادية المزرية للإطار الطبي وشبه الطبي. ما دفع بعدد كبير من الأطباء إلى الهجرة إلى أوروبا وأمريكا في السنوات الماضية.
وكشف وباء “كورونا” كذلك حجم التضحية التي يقدمها أعوان الصحة العمومية، رغم بعض الهنات، لمحاربة الوباء أمام قطاع خاص بقي متفرجا بل متربصا بصحة المواطنين سعيا إلى الربح المادي، وهو ما عبّر عنه ممثليه في أكثر من مناسبة.
أمّا في التعليم، الذي سنعتمده كحالة لتسليط الضوء، وإن كانت الأضرار الكاملة قد لا تبرُز بحدة إلاّ للعاملين في القطاع، فإنّ حجمها كبير ومخيف. فالبنية التحتية مهترئة وتمثل في كثير من الأحيان خطرا على التلاميذ والمدرسين. ووسائل العمل تقليدية إن توفرت. أمّا البرامج والمناهج فتعرّيها مخرجات المنظومة التربوية بما في ذلك المخرجات الاجتماعية. لن نتطرق إلى كل مكونات المنظومة بل سنقتصر على المدرسات والمدرسين بمناسبة الاحتفال بعيد العمال ومدى الضرر الذي يلحق بهم وبالتلاميذ جرّاء خيارات تتحكم بها الجهات المالية الأجنبية.
يُعتبر المدرّسات والمدرّسون، وغيرهم من الفاعلين التربويين، حجر زاوية المنظومة التربوية. إلاّ أنّ أصحاب القرار في وزارة التربية والحكومات المتعاقبة لا يتصرفون على هذا الأساس. بل إنّ ما يقودهم هو الاستهتار بهذا الجانب واللجوء إلى الحلول السهلة حتى وإن كانت تداعياتها فيما بعد مضرة. فاللجوء إلى آفة التعاقد يعود إلى أواسط الثمانينات بأشكال وتسميات مختلفة بعد التدمير الممنهج لمدارس ترشيح المعلمين، ثم المعاهد العليا لتكوين المعلمين في مرحلة لاحقة، وخلق فراغ رهيب ليتمّ تعويض الانتداب بالتعاقد. ولولا وقفة النقابات ونضالها لاستفحلت الظاهرة ووصلنا اليوم إلى الخراب التام الذي يصعب الخروج منه.
يمكن الجزم بأنّ النقابات طالبت بتسوية وضعية المتعاقدين أو النواب عبر الانتداب رفضا منها للأشكال الهشة للتشغيل، المهينة للكرامة والملحقة للضرر الفادح بالتلاميذ. إذ كيف لنائب أو متعاقد لا يعرف الاستقرار النفسي ولا يتلقّى تكوينا ولا متابعة أن يفيد المنظومة في ظروف صعبة ومعقدة خاصة حين يكون المستقبل مجهولا. ويتواصل الصراع إلى اليوم بين نقابات ترفض التشغيل الهش بأجور زهيدة لا يستلمها أصحابها إلاّ بعد أشهر طويلة على الأقل، وبين حكومات، بمن فيها حكومات ما بعد الثورة، هدفها الضغط على “كتلة الأجور” في الوظيفة العمومية استجابة إلى أسيادها الأجانب ومانحيها غير عابئة بتدمير المدرسة العمومية.
كثيرا ما أنكر الحكام رضوخهم للإملاءات الخارجية إلى أن حلّت سنة 2017 لتقر الحكومة بأنّ وضعية النواب لم يعد ممكنا تسويتها على غرار السنوات الفارطة، أي عبر الانتداب (تربص فترسيم). بل إنّ التسوية تتمّ على أساس “العون الوقتي”، أي الانتقال من هشاشة كاملة إلى هشاشة جزئية لن يعرف معها المعنيون بهذه الصفة الراحة النفسية التي تعتبر محددة في عطاء المدرسين. إنّ هذا التوجه جاء استجابة لإملاءات المانحين وهو ما تمّ تقديمه كمبرر في جلسات رسمية.
أمّا الفضيحة الأكبر فهي على الإطلاق وضعية أساتذة المدارس الابتدائية، خريجي الدفعة الأولى من الإجازة التطبيقية في التربية والتعليم، الذين تلقّوا تكوينا خصوصيا يؤهلهم للدخول مباشرة في صلب الموضوع. وضعية الخريجين تعكس درجة الاستهتار بالكفاءة والعبث بمستقبل الشباب إذ تم “تشغيلهم” بصفة هجينة لا تخضع للمعايير المعروفة. فهم متعاقدون رغم أنفهم دون إمضاء عقود، وهم يشتغلون في المدارس دون أن ينالوا أجورهم، وهم أساتذة ولكنهم محرومون من هذه الصفة، ولهم الحق في الانتداب المباشر وفق القانون العام للوظيفة والنظام الأساسي القطاعي ولكنهم غير منتدبين. إنها قمة العبث. تتذرع الحكومة بعدم رصد الاعتمادات المالية اللازمة للدفعة الأولى حين تمّ إحداث هذه الشعبة، وهذا أمر لا يصدّقه حتى السّذّج لأنّ هذا الذي يذكرونه كتعلّة، إن سلمنا بصحته، هو نتيجة أخطاء حكومات سابقة لا يمكن ولا يقبل أن يتحملها خريجو الإجازة التطبيقية. ويكمن السبب الأكثر جدية في الاستجابة للإملاءات الخارجية.
هذه عيّنة مصغّرة عمّا يحصل في كلّ قطاعات الوظيفة العمومية، وهو ما يعرّي زيف الشعارات التي ترفع من حين لآخر. إنّ واقع التشغيل وواقع العاملين بمختلف آليات التشغيل الهش هو واحد من المعايير التي يجب أن تقودنا في حكمنا على السياسات والخيارات وعلى الحكومات والرؤساء وليس فقط البرامج الانتخابية المخاتلة التي نسمعها بمناسبة الانتخابات. لقد حلّ عيد العمال هذه السنة والشغالون في أسوأ حال نتيجة خيارات لا وطنية تتواصل إلى يوم الناس هذا وهو ما يتطلب رص الصفوف ومزيدا من النضال المنظم والمؤطّر وعلى النقابات أن تلعب دورها.