علي البعزاوي
استفاق أهالي قعفور وكلّ النّخب والرأي العام الوطني ذات 8 ماي 1987 على وقْع جريمة بشعة نفّذتها الرّجعية البورقيبيّة في حقّ مناضل حزب العمال الشهيد نبيل بركاتي بعد أن وقع إيقافه بتهمة “توزيع مناشير والانتماء إلى جمعيّة غير مرخّص فيها” وصموده حتى النهاية رغم أبْشع صُنوف التّعذيب التي تعرّض إليها وعدم تعاونه بالكشف عن مصدر المناشير التي وقع توزيعها في كامل المدينة.
8 ماي 1987 كان يوم الميلاد الحقيقي للمناضل البطل والقائد الذي كان قبل ذلك التاريخ مجرّد “بولونة” في آلة حزب العمال وعضوًا في أحد هياكل هذا الحزب الذي انْتمى إليه منذ التّأسيس.
الجريمة ومُلابساتها شكّلتا في ذلك الوقت مناسبة لتسليط الأضواء على الشّهيد الذي كان يتحرّك في كنف السرية بعيدا على أعْين البوليس لكن على مرأى ومسْمعِ من أبناء قعفور الذين كانوا على معرفة جيّدة بحقيقة انتمائه. وقد اعتُبِر منذ ذلك الوقت أحد قامات الحزب والباكورة الأولى لجيلٍ من المناضلين الشّباب الذين قدّموا كلّ ما لديهم من وقتٍ وجهدٍ وأموالٍ وضحّوا بعائلاتهم ومستقبلهم المهني والتّعليمي وبحياتهم أحيانا في سبيل إعلاء راية الاشتراكية والشيوعية في تونس غير عابِئِين بدكتاتورية العهْدين البورقيبي والنوفمبري التي منعت كل أشكال التنظّم والنشاط المستقلّين.
الشهيد الرّمز نبيل بركاتي آمن مبكّرا بالحرّيات السياسية التي يفرض من خلالها الشّعب حقّه المشروع في التنظّم والتعبير والنشاط والنضال من أجل الاشتراكية والشيوعية، مثلما آمن بأنّ تحقيق ذلك مستحيلٌ خارج التنظّم والانتماء إلى حزبٍ سياسي. لهذا اخْتار الحزب الذي يليق به ويعبّر عن قناعاته ولم ينتظر تشريع الحزب قانونيًّا حتى ينخرط في ممارسة هذه القناعات على أرض الواقع غير عابئٍ لا بالقوانين الزّجرية المانعة للحريات ولا بالعسَسِ والميليشيات في الأحياء ولا بالمراقبة الأمنيّة اللّصيقة في بعض الأحيان ودفع حياته ثمنًا لذلك.
نبيل بركاتي هو شهيد الحرّية لأنّه آمن بأنّ حياة الإنسان لا معنى لها إذا لم يكن حرًّا طليقا كطيف النسيم مثلما قال الشاعر أبو القاسم الشابي. ولم يكتفِ بذلك، بل ناضل من أجل أن يكون مواطنا حرّا فعلا ومناضلا اِنتمى بشكلٍ واعي إلى حزبٍ ثوريٍّ غايته تحقيق ذاته ومشروعا آمن به.
نبيل بركاتي هو أيضا رمز الأخلاق الشيوعية الرّاقية. فهو الشّاب الصّادق والمتواضع والمباشر والبسيط في طريقة حياته، وهو الشاب المُنفتح صاحب العلاقات الواسعة الذي لا يعرف الغدْر ولا الأنانية وهو المتعاوِن الذي يهُبُّ دائما لنجدة من يستحقّ النجدة بلا حساباتٍ.
وهو شهيد الاشتراكية والشيوعية التي آمن بها وناضل محلّيا ووطنيا لإعلاء رايتها ليس على مستوى الأعمال الدعائية المنظمة في الجامعة وفي الحركة النقابية ولا على مستوى الأنشطة والتحرّكات الميدانية فقط، بل عمل على تكريسها في سلوكه اليومي وفي علاقاته الواسعة وفي محيطه. نبيل البركاتي كان اشتراكيّا بكلّ ما في الكلمة من معنى، يمدُّ يد المساعدة لرفاقه الطلبة ولأصدقائه ولعائلته، ولم يفكّر ولو للحظة في العيش كبورجوازي صغير يسبِّق مصالحه الخاصة وحياته وحساباته ورغباته ولا في توفير الأموال لتحقيق غايات شخصية. فنبيل مثلما يقول المثل الشعبي “الّي ليهْ خاطيهْ” لأنه ببساطة لا يقدّس الملكية الخاصة. بل كان يتصرّف في مقدّراته في محيطٍ واسع من الرفاق والأصدقاء إلى جانب عائلته وتلاميذه الذين كان يتصرّف معهم كأخٍ وكأبٍ عطوفٍ. فهو الذي يشتري الأدوات المدرسية وهو الذي يرتُقُ الأقمصة الممزّقة وهو الذي يساعد هذا وذاك على التنقّل إلى منزله كلّما كان ذلك ضروريا. وهو الذي لا يتردّد في مساعدة العائلات الفقيرة… إنّها الاشتراكية في تجلّياتها العمليّة والتي لم تكن مجرّد قوالبَ وجُملًا وكلمات أو زفرات تُردَّدُ في بعض المناسبات. بل كانت ممارسة يوميّة حيّة ونشيطة وفعّالة ساعدت الشّهيد على تشكيل سلسلة من العلاقات الوثيقة مع محيط سرعان ما تفاعل وبقوّةٍ مع خبر الجريمة/الاغتيال الذي نزل نُزول الصّاعقة على أهالي ورفاق وأصدقاء وتلاميذ الشّهيد.
الأكيد أنّنا، كرفاقٍ لنبيل بركاتي، نشعر بالفخر وبالحياء معا عندما نستعرض هذه الخصال وهذه القيم وهذه المبادىء التي ضحّى من أجلها الشهيد الرمز، ونحاول أن نعزّي أنفسنا بالاعتقاد أنّنا بالإصرار على إحياء ذكرى استشهاده كل يوم 8 ماي متَّحِدين آلة القمع إنما نريد التماهي معه والسّير على خطاه والوفاء على طريقته لمبادئنا ومشروعنا.
الشهيد الرمز هو معلمنا الذي ربّى فينا معاني الصّمود والوفاء للمبادئ والبقاء على العهد. إنّ رفاق الشهيد الحقيقيّين هم كلّ الذين لم يخونوا ولم يحِيدوا ولم يتراجعوا ولم يحسبوا حساباتَ المصالح الخاصة ولم يبحثوا عن الظّهور الاستعراضي في زمن “البوز” ولم يرتبكوا أمام حملات التّشويه والمؤامرات وأمام كل أشكال الإغراءات ولم يسقطوا أمام ضربات الجلاد. الوفاء للشهيد لن يكون إلّا بالسير على خطاه ومسيرة الشّهيد واضحة وجليّة. كم نحن بحاجة إلى هذه المدرسة العريقة في النضال، إنّها المدرسة الاشتراكية الحقيقيّة التي عبّرت عنها مسيرة الشّهيد القائد بكامل الوضوح.