هاجر منصوري،
باحثة في الدّراسة الحضاريّة،
ومختصّة في تحليل الخطاب حول النّساء
بداية الوهم، تتسرّب في خطابنا السياسي حينما يعتقد بعض فاعليه أنّ المسار النسويّ في تونس لا يعدو أن يكون مجرّد موجة تميد حسب أهواء السّاسة المتنفّذين، أو هو خيار أضاع سبيله ويحتاج إلى تصويب بوصلته. والحال أنّه في حقيقته حراك مجتمعيّ نسويّ نشأ من رحم الحركة الوطنيّة ورافقها، واستمرّ إلى مرحلة ما بعد الاستقلال، واشتدّ نسقه بعد ثورة 2011، وتشكّل وعي النساء المنتميات إليه بواقع التهميش والتمييز الذي يتعرّضن له. فكان وعيا متنوّعا نقابيّا وسياسيّا واجتماعيّا ومحفّزا للعديد من الناشطات نحو تأسيس جمعيّات ومنظّمات نسويّة خلقت بوجودها مساحة حرّة للتّفكير واستلهمت روح الثورة على التقاليد وعلى كلّ أشكال التّمييز بين الجنسين في جميع المجالات الحياتيّة. وسعت هذه الجمعيّات والمنظّمات بما تحمله من فكر إصلاحي وتقدّمي للتصدّي لكلّ خطاب يستعيد مقولات التّمييز على أساس الجنس، وقد مثّل الأمر الحكومي عدد 208 الصادر في 2 ماي 2020، بالرائد الرسمي للجمهوريّة التونسيّة اختبارا لهذا الفكر وحراكه المجتمعي.
الحسم النّسويّ في مقولتي الولاية الذّكوريّة والوصاية السّياسيّة
إثر الأمر الحكومي عدد 208 الصادر في 2 ماي 2020، بالرائد الرسمي للجمهوريّة التونسيّة والمتعلّق بضبط إجراءات الحجر الصحّي الموجّه، ثارت منظّمات نسويّة وحقوقيّة وحتّى سياسيّة على خلفيّة ما احتواه الفصل العاشر في نقطته الثانية من أنّ الأشخاص الذين سيتواصل خضوعهم لإجراءات الحجر الصحّي الشامل منهم الأمّهات اللاتي لا يتجاوز سنّ أبنائهنّ 15 سنة.
واعتبرت هذه المنظّمات أنّ هذه النقطة لا تنسجم وديناميكيّة الحراك النسوي في هذا الظرف التاريخي الذي يستدعي منه تقديم مجموعة من الأولويات تحت عنوان الانتقال الديمقراطي في تونس وهي حقوق النساء. وأصدرت هذه المنظّمات في ذلك بيانين تدعو فيهما إلى سحب هذا القرار الحكومي وتعويضه بما يجعل الأمر موكولا إلى الزوجين في تقرير من منهما يرعى الأطفال أو يُستثنى من الحجر الموجّه.
وفي الآن الذي التزمت جميع الأحزاب السياسيّة الصمت حيال هذا القرار الحكومي نجد المنظّمة النسائية مساواة (2012)، التابعة لحزب العمّال تصدر بيانا وسمته بـ”لا للمسّ من مكاسب المرأة.. من أجل سحب القرار الحكومي” من منطلق اندراجها السياسيّ في مشهد الحراك النسوي بالتصدّي لكلّ من يعرقل هذا المسار. وأمّا سائر المنظمات النسويّة الأخرى، فقد أصدرت بيانا رسميّا مشتركا وسمته بــ” لا للفصل العاشر.. الأطفال مسؤوليّة عائليّة مشتركة…الأطفال مسؤولية مجتمعيّة”، وقد أمضت عليه كلّ من الجمعيّة التونسيّة للنساء الديمقراطيات (1989)، والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الانسان (1977)، وجمعيّة بيتي(2011)، ومجموعة توحيدة بالشيخ (تقريبا 2014)، وجمعيّة المرأة والمواطنة بالكاف (2011)، وجمعيّة النساء التونسيات للبحث حول التنمية (1989)، وجمعيّة نشاز(2019). واتّفق خطاب الحسم في هذه المنظّمات على أنّ ما ورد في هذا الفصل العاشر يكرّس التمييز بين الجنسين، وهو بذلك عنف جندريّ ترعاه الدولة ضدّ المرأة وتؤسّس له انطلاقا من مقولتي الولاية الذكوريّة التي تشرّع للعنف الاجتماعي والاقتصادي والقانوني، والوصاية السياسيّة التي تشرّع للعنف السياسي:
** العنف الاجتماعي:
أكّدت المنظّمات النسويّة والحقوقيّة على العنف الاجتماعي فيما ورد في الفصل العاشر، إذ اعتبرت أنّ استثناء الأمّهات من الحجر التدريجي ” استنساخ لواقع الاستغلال المضاعف للنساء وللثقافة الذكوريّة السائدة التي تثقلهنّ بأعباء الأسرة وتنكر عليهنّ بقية الأدوار الإنتاجية”. وقد نبّهت هذه الجمعيّات إلى أنّه منذ بداية الحجر الصحي تتعرّض النساء للعنف من خلال التقسيم غير العادل للأدوار داخل الأسرة وتصبح هذه الأدوار بهذا ” الأمر الحكومي قدرا أرادته الدولة للنساء في إنكار تام لما يضطلعن به من مهام في مختلف القطاعات من النسيج إلى التّنظيف إلى التطبيب إلى التعليم إلى الفلاحة وغيرها”.
** العنف الاقتصادي:
اشتركت منظّمة مساواة السياسيّة مع سائر المنظّمات الأخرى في التأكيد على مسألة العنف الاقتصادي الموجّه ضدّ النساء، ففي تطبيق هذه النقطة من القرار أثر “واضح من حيث عرقلة المسارات المهنيّة للنساء وهو ما يخالف منطوق الفصل 19 من القانون الأساسي عدد 58 لسنة 2017 (…) والذي جاء ليمنع ويعاقب العنف الاقتصادي المرتكب بسبب الجنس” حتّى أنّه ” يتغافل عن كلّ النساء المعيلات بمفردهنّ لأسرهنّ والمشتغلات في أغلب الأحيان في القطاعات غير المهيكلة ويحرمهنّ من إمكانيّة العمل دون أن يقترح بديلا أو حلاّ لوضعهن الاقتصادي الحرج”، فيكرّس بذلك المزيد من معاناة فئة معيّنة من النساء العاملات فضلا عن تهميشهنّ.
** العنف القانوني:
وزيادة على ذلك، تتّفق جميع هذه المنظمات في الإشارة إلى العنف القانوني أو التشريعي، إذ أنّه ” يكرّس التّمييز على أساس الجنس في مخالفة واضحة للدستور التونسي وخاصة فصله 21 المتعلّق بالمساواة بين المواطنات والمواطنين”. وقد يكون فاتحة لعنف قانوني وتشريعي آخر، ولذا تقترح منظّمة مساواة ضرورة طرح “مسألة الولاية للمرأة داخل الأسرة” حتّى تستحيل الحياة الأسريّة قائمة على مفهوم الشراكة ولا على مفهوم القوامة الذكوريّة التي طبعت علاقة الرجال بالنساء في الفضاءات الخارجيّة والدّاخليّة.
** العنف السياسي:
ولا يغيب العنف السياسي في هذا القرار، وهو يندرج في سياق الوصاية السياسيّة على المسار النسويّ في تونس، وقد أشارت إليه منظّمة مساواة، حينما رأت فيما أقرّته جليلة بن خليل العضوة باللجنة القارة لمجابهة فيروس “كورونا” من أنّ النقطة المتّصلة بالأمهات اللواتي لا يتجاوز سنّ أبنائهن 15 سنة قد تكون “اجتهادا من جهة أخرى نجهلها”. وحذّرت من أنّ هذا القرار السياسي يحمل توجّه الائتلاف الحاكم الذي يجمع أساسا بين أحزاب النهضة، والتيار الدّيمقراطي، وحركة الشعب، وتحيا تونس، والإصلاح الوطني والمستقبل إلى ” ضرب مكتسبات النساء ” في المساواة والمواطنة الفعليّة في تونس.
وجرّاء هذا الضغط النسويّ الكاشف للمسكوت عنه من كلّ أشكال العنف ضدّ النساء، صرّحت رئاسة الحكومة في بلاغ لها أنّ خطأ تسرّب في الصياغة النهائيّة للنصّ ذلك أنّ الأمر يتعلّق بالأطفال دون 15 سنة وليس أمّهاتهم المعنيّات بإجراءات الحجر الصحّي الشامل. وتمّ تنقيح هذا الأمر الحكومي وإعادة نشره في الرائد الرسمي مساء يوم الأحد 03 ماي 2020. وعكس هذا الخطأ “المتسرّب” على كثرة عدد المستشارين لدى رئاسة الحكومة نوعا من الارتباك السياسي في اتخاذ القرارات وكثيرا من الحرص النسويّ حيال كلّ الأخطاء التي تتربّص بمسارهنّ وخاصّة في هذا الظرف الخطير الذي تعيشه البلاد. وقد دفع الأمر بمعظم المنظّمات المذكورة آنفا إلى أن تصدر بيانا ثالثا “لا لمواصلة سياسة العنف والتمييز ضد النساء”، مؤرخا في 06 ماي 2020. وأمضت عليه كلّ من المنظمة النسائيّة مساواة التابعة لحزب العمّال والنساء التونسيات للبحث حول التنمية، والجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات، وغيرها من المنظّمات الأخرى.. وفيه تقترح جملة من الإجراءات لها بعد اجتماعيّ واقتصاديّ وصحيّ وحمائيّ يثمّن دور الفئات الأكثر هشاشة وخاصة العاملات في القطاع الفلاحي، ويكفل للنساء العاملات في القطاع العمومي والخاص سبل عيشهنّ الكريم.
وما يرسخ حقيقة لا وهم فيها، أوّلا، أنّ الحراك النسويّ في تونس بخطاباته المتعدّدة يسعى إلى تغيير الذهنيّة الذكوريّة السائدة في المجتمع التونسي، ويعمل على تحقيق المواطنة الكاملة للمرأة على أرض الواقع في ظلّ مكتسبات مجلّة الأحوال الشخصية التي تُعدّ عنوانا لخيار الإصلاح التحديثي السياسي والمجتمعي منذ الاستقلال وإلى راهن أيامنا، وقد سعى المجتمع المدني بحراكه المنظّماتي والسياسي إلى استكمال هذا الخيار بجملة الإصلاحات التشريعيّة التي تقدّم بها تقرير لجنة الحريات الفرديّة والمساواة في 2018، والعمل على تطبيق اتفاقيّة القضاء على جميع أشكال العنف المسلّط على النساء التي رفعت تونس سنة 2014 جميع تحفّظاتها عليها.
ثانيا، أنّ الخطاب النسويّ المتعدّد، مدعوّ راهنا إلى أن يعمل على مراجعة آليّاته النظريّة من أجل نشر فكر علمانيّ وتقدّمي يقرّ بثقافة المساواة بين الجنسين في جميع المجالات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية، والقانونية. وكذلك عليه تطوير آليّاته الإجرائيّة من خلال تكثيف الورشات التكوينيّة لإدماج مقاربة الجندر في البحوث الميدانيّة والمشاريع التنموية لدعم الحقوق الاقتصاديّة والسياسيّة للمرأة وإدماجها في الحياة العامّة وفي التنمية.
ثالثا وأخيرا، نراهن أنّ العمل المدني وحتّى السياسي في حقله النسويّ سيتصدّى لكلّ الخيارات والقرارات التي تميّز بين الجنسين، ولكلّ الخطابات التي تضمر الكره الأيديولوجي للنسويّة وتستبطن التمثّلات الاجتماعيّة الدونيّة للنساء. ونؤمن أنّه سيلعب دائما أدوارا مهمّة في صياغة المشهد التونسي العام، وسيساهم في بناء دولة مدنيّة ديمقراطيّة يتساوى مواطنوها/تها في الحقوق والواجبات. وما جرى في غضون الأيّام الماضية يعدّ درسا لنا جميعنا في أنّ القرارات السياسيّة المرتجلة والتمييزيّة قد تتكاثر علينا في قادم الأيّام ورهاننا اليقظة المتواصلة .. ورسالتنا لكلّ من يتصوّر النساء بيادق مكمّلة في رقعة شطرنج الواقع واللعبة السياسيّة أنّه واهم وموقفه واهن مهما كان انتماؤه وولاؤه.