علي الجلولي
في يوم 12 ماي 1964 أعلنت الدّولة التونسيّة “الجلاء الزّراعي” عبر سحب ملكيّة الأراضي الزّراعية التي كانت تحت يد المعمّرين الذين شكّلوا طيلة عقودٍ الذّراع الزّراعية للاستعمار الفرنسي في بلادنا، وهم الذين ظلّوا يملكون أفضل الأراضي وأخْصبها على طول البلاد وعرضها وخاصّة في شمالها ووسطها وساحلها، أيْ أراضي السّباسب التي شكّلت منذ غابر التاريخ “مَطْمورة روما”، إذ كانت تغذّي شمال المتوسّط وتمدّه بالحبوب والباكورات والثّمار. وهو ما تواصل مع الاستعمار الفرنسي الذي افتكّ أفضل الأراضي وحوّل أصحابها إلى عمّال مُياوِمين وموسميّين. وحين وقع إمضاء اتّفاقية 20 مارس 1956 بملاحِقِها السرّية، اقتنع الشعب التونسي أنّه لم ينلْ استقلاله كاملا، فلا استقلالٌ دون سيادة تونس على كامل أراضيها ومجالها الجغرافي.
ولئن تمّ تحقيق جلاء الجنود عن بنزرت ورمادة في 15 أكتوبر 1963 بعد معركة قدّم فيها الشعب التونسي مئات الشّهداء، فإنّ إعلان “الجلاء الزّراعي” تمّ في 12 ماي 1964 وذلك بتأميم كلّ الأراضي الفلاحيّة التي كانت تحت ذمّة المعمّرين، وأيضا تأميم أراضي الأحْباس والزوايا…الخ وتحويلها جميعا إلى ملكيّة للدّولة. إلاّ أنّ هذا الإجراء ظلّ منقوصا وبدأ يفقد معناه حين بدأ بورقيبة في توزيع أخْصب الأراضي على قادة حزبه والمقرّبين منه. ولئن تمكّن بعض المُقاومين القُدامى من قِطَعٍ فلاحيّة، فإنّ هذه القطع وقع تمليكها أيضا لبعض من كانوا خَدَمًا وأعوانا عند المستعمر. أمّا الأراضي التي تحوّلت إلى ملكية الدولة، فإنّ أجزاء مهمّة منها ظلّت دون استغلالٍ لتتحوّل تدريجيّا إلى أراضي غير مستصلحة.
إنّ عدم ربط تأميم الأراضي بإجراءِ إصلاحٍ زراعيٍّ فعليٍّ يمكّن صغار وفقراء الفلّاحين من قِطَع أرضٍ صالحة للزراعة وتمكينهم من الإعانات والمُساعدات حتى يستقرّوا في الرّيف ويعمّرونه وبالتالي يؤمّنون السّيادة الغذائية للبلاد والشعب. لقد كان من المفروض تطوير البنْية الأساسيّة للاستقرار وللعيش الكريم حتى يتحقّق نهوض الرّيف، لكنّ ذلك لم يحصل، وهو ما أنْتج تنامي غير مسْبوقٍ لظاهرة النّزوح التي غذّتها سياسة التّعاضد ثم اللّيبرالية المُتّبعة من طرف “نويرة” في بداية السّبعينات.
ومنذ سنة 1964 بقي وضع الرّيف جوهريّا على حاله، فالأراضي الخِصبة جزءٌ منها عند كبار الملاكين ذوي الأصول الإقطاعيّة، وجزءٌ آخرَ عند الدولة هو في أغلبه غير مستغلٍّ. ولئن وجّهت الدولة جزء من هذه الأراضي إلى الكراء للخوّاص، فإنّ أجزاء مهمّة ظلت مُهْملة رغم المطالب المتجدّدة بكرائها لخرّيجي الجامعة وأبناء الفلاحين والمهندسين الفلاحيّين بمعاليم رمزيّة لتشجيع الاستقرار والإنتاج الفلاحي الذي ظلّ يتراجع في أغلب فروع القطاع وخاصّة الحليب واللّحوم فضلا عن الحبوب والباكورات التي يقع توريدها رغم الإمكانيات الهائلة للبلاد. فيما بقيت الأراضي الاشتراكية في أغلبها بيضاءَ دون توزيعٍ ولا استغلالٍ.
لقد ارتفعت عديد الأصوات بعد الثورة لفتح ملفّ الفلاحة، وفي قناعتنا أنّه لا تقدّم للقطاع دون إصلاحٍ زراعيٍّ حقيقيٍّ يُعيد توزيع الأرض وتوفير الإمكانيّات ودفع بعث التعاونيّات والتعاضديات وكلّ أشكال التّملّك والتصرّف التّضامني، وتشجيع خرّيجي الجامعات من المختصّين في العلوم الزراعيّة وغيرها على النشاط الفلاحي وتمكينهم من كلّ مقوّمات النجاح من مياه الريّ إلى توفير الكهرباء والطاقات المتجدّدة، والبذور والأسْمدة والرّقابة الصحّية والبيطرية، وصولا إلى مسالك التّوزيع والتّرويج بالضّرب على يد المحتكرين والوسطاء.
إنّ استقلال البلاد سيظلّ منقوصا دون سيادةٍ غذائيّة، كما أنّ سيادة الشّعب ستظلّ مبتورة إن ظلّ الريف مهمّشا ومحتقرا. والخطوة الأساسيّة التي يجب النّضال من أجل فرضها اليوم هي سنّ قانون الإصلاح الزّراعي الذي يُعيد الاعتبار إلى الفلاحة والفلاحين والريف عبر إجراءاته العقارية والإدارية والفنية، وهذا بالطبع مرتبط بقرارٍ سياسيٍّ منحاز إلى فقراء وصغار الفلّاحين الذين يزرعون الأرض ويُطْعِمون الآخرين، لكنّهم يعيشون ضَنَك العيْش.