جيلاني الهمامي
ساد خلال أزمة الكورونا تخوّف من أن تنضب مخزونات البلاد من مواد الاستهلاك الأساسية وخاصة المواد الغذائية. ومع غلق الحدود وانتشار الوباء في كلّ أرجاء العالم أصبح كلّ بلد يعوّل على إمكانياته الخاصة. إذ تراجعت بشكل كبير حركة التّوريد والتصدير ووضعت قدرات البلاد الإنتاجيّة خاصة في المجال الفلاحي أمام اختبار حقيقي. لحسن الحظ أنّ الأزمة لم تستمرّ كثيرا وإلّا لَوَجد الشعب نفسه أمام مخاطر جدّية في غذائه ومعيشته.
وإذا كان ثمّة درس يمكن أن نستخلصه من هذا الامتحان فهو إعادة النظر في الاختيارات المتّبعة في التّنمية الاقتصادية عموما وتنمية قطاع الفلاحة بالخصوص. ويطرح اليوم اعتماد مقاربة جديدة ومغايرة لما تمّ اعتماده في قطاع الفلاحة على جميع الأصعدة.
ما من شك في أنّ السياسة الفلاحية القديمة المُتّبعة منذ عهد بورقيبة وبن علي مازالت مُعتمدة اليوم بعد عشر سنوات من الثورة. قد كشفت عن حدودها في تأمين الأمن الغذائي للشعب التونسي على محدوديّة الطلب ورغم ما تزْخر به البلاد من مقدّرات وتنوّع. فنتيجة لهذه السّياسة، ظلّ غذاؤنا مرهونا بالتّوريد من الخارج في كلّ المواد تقريبا (الحبوب واللحوم والحليب وحتى الخضراوات والغلال وغيرها). والأكيد أنّ تداعيات أوضاع الكورونا ستُحْدِث تغييرات جذريّة على العرض والمداولات في سوق المواد الفلاحية على النطاق العالمي وهو ما سيضعنا أمام مصاعب من نوع جديد، الأمر الذي يقتضي ضرورة مراجعة سياستنا الفلاحية مراجعةً جذريّةً.
لكن وكعادتها تتّجه منظومة الحكم الحالية إلى الهروب إلى الأمام في السياسة القديمة متجاهلة كلّ العاهات التي تنْخر هذا القطاع على المستوى العقاري والإنتاجي والتّمويلي وغيرها. وفي المقابل من ذلك لا تُخفي تهافتها على عقد الاتفاقيات مع الاتحاد الأوروبي (الأليكا) ومع قطر وتركيا وغيرها التي لن تجنِ منها البلاد غير مزيد تفكيك قطاع الفلاحة وتدمير أُسُسه الهشّة.
بطبيعة الحال لا يمكن أن تنفصم معالجة أوضاع الفلاحة عن مقاربة اقتصادية كاملة تشمل كلّ القطاعات في إطار منظومة سياسيّة جديدة وبنية اقتصادية اجتماعية مغايرة. كما أنّ هذه المعالجة لا يمكن أن تقتصر على جانب دون بقيّة الجوانب الأخرى بما أنّ التّخريب الذي طال هذه القطاع – كغيره من القطاعات – مسّ كلّ مكوّناته. غير أنني أحاول في ما يلي التركيز على أحد هذه الجوانب وهو ما يعرف بالأراضي الدولية.
طرح موضوع ملكيّة واستغلال الأراضي الدّولية بعد الثورة كما لم يسبق له أن طرح من قبل. ففي جهات كمنطقة صاحب الجبل قرب الهوارية وهنشير عيّاد في قربة بالوطن القبلي وضيعة “بالما Palma” في بوعرادة ومنطقة بوجليدة بالعروسة وسيدي بورويس والكريب من ولاية سليانة وأولاد سلامة في تستور من ولاية باجة والشّويقي والدخيلة من ولاية منوبة وجمنة في قبلّي وغيرها من المناطق جرت سلسلة من الاحتجاجات والتحرّكات الجماهيرية انتهت في بعض الحالات إلى التّحوّز بمقاسم فلاحيّة على ملك الدولة سواء كانت مُهملة أو تمّ منحها لرموز النظام البائد.
في كلّ هذه الجهات أُسْنِدت لـ “مستثمرين” خواص مساحات شاسعة إمّا هي على ملك ديوان الأراضي الدولية أو هي ضيعات كانت فيما مضى تعاضديّات أو وحدات إنتاج فلاحي. وقد تمّ منحهم هذه الأراضي في شكل ما يسمى بـ”شركات الإحياء” أو في شكل تسويغ طويل المدى هو أقرب إلى الهِبَات منه لأيّ شيءٍ آخر. وتمتّع بعمليات التّسوّغ هذه عناصر من عائلة بن علي وأصهاره أو رموز فاسدة معروفة بعلاقاتها المتينة بهذه العصابات ومتنفّذين في الحكم وفي “التجمع” في عهد النظام السابق.
عقود من القهر والاستغلال
ومعروف أنّ النّظام الدستوري، في عهد بورقيبة كما في عهد بن علي، كان يعمد إلى منح قطع فلاحية كمكافآتٍ لرموز في الحزب الحاكم والجيش وأجهزة الأمن والدّولة لقاء خدماتٍ ونشاطاتٍ قدّموها لصالح النظام. ففي أواخر الخمسينات وبداية الستّينات من القرن الماضي أذِن بورقيبة بالتّفويت في مساحات مهمّة من الأراضي التي استُرْجِعت من المعمّرين الفرنسيّين لرجالاتٍ من الحزب والمقاومين وإطارات الدولة ووظّف ذلك في عدة اتّجاهات منها توسيع القاعدة الاجتماعية لنظامه (برجوازية جديدة في الريف) ومنها تعويض جهاز الإنتاج الفلاحي بعد رحيل المعمّرين الفرنسيين من تونس بجهاز إنتاجي جديد محلّيٍّ ومنها خاصة الالتفاف على استحقاق الإصلاح الزراعي آنذاك.
أمّا في عهد بن علي فقد جرى التّلاعب بهذه الأراضي في إطار استفحال ظاهرة الفساد واتّخذت عمليات منح الأراضي أشكالا مفضوحة من الرّشوة والنّهب، ذلك أنّ الاستيلاء على بعض المساحات لم يَطَلْ فقط أراضي الدّولة، بل وكذلك أراضٍ على ملك فلاحين صغار ومتوسّطين.
لقد عانى الرّيف التونسي طوال عقود طويلة من القهر في ظلّ المعمّرين الفرنسيّين كما في عهد النظام “الدستوري” وتعاقبت عليه أشكال متنوّعة من الاستغلال، منها ما تمّ على أيدي برجوازية زراعية جشِعة (كخواص) ومنها ما حصل برعاية الدولة نفسها (تجربة التعاضد) واختزن الفلاحون الصغار ومهمّشو الريف جرّاء ذلك مشاعر عميقة بالغُبن والاستياء والغضب واتّخذوا من ثورة 14 جانفي مناسبة للتعبير عنها ولتفجيرها وفرصة علّقوا عليها أملهم في التحرّر من مخلّفات الماضي البغيض. لكن ومع مرور الأيام ازداد وضع جماهير الفلّاحين وعموم سكّان الريف سوءً مثلهم مثل غيرهم من الفئات الشعبية الأخرى وأُصِيبوا بخيبة أمل عمّقت لديهم مشاعر الغبن والاستياء والغضب. لذلك لم يتوانوا في أكثر من جهة عن كسْرِ حاجز الخوف والاستكانة والمبادرة باستعادة أراضيهم المغتصبة أو أراضي الدولة المستغلّة دون وجه شرعي من أشباه مستثمرين فاسدين أو هي مُهملة تماما.
إمكانيّات مهمّة غير مستغلة
يمرّ قطاع الفلاحة في تونس، شأنه شأن القطاعات الاقتصادية الأخرى، بأزمة خانقة. ويُعْزَى ذلك لأسباب هيكليّة وتنظيمية وتقنية من جهة، ولمصاعب مرتبطة بالظرف الاقتصادي العالمي من جهة ثانية. وتتجلّى هذه الأزمة في مظاهر متعدّدة لعلّ أبرزها تخلّفه وضعف إنتاجيته ومحدودية طاقته التشغيلية رغم المقدّرات الهائلة المتوفّرة، ذلك أنّ مساحة الأراضي الفلاحية في تونس تزيد عن 10 آلاف كيلومتر مربّع. وتنقسم مساحة الأراضي الصّالحة للزراعة، حسب الأرقام الرسمية إلى 5 ملايين هكتار من الأراضي المحترثة و4 ملايين هكتار مراعي طبيعيّة ومليون هكتار من الغابات والأحراش. ويتميّز مناخنا المتوسّطي بنسبة رطوبة (مغياثية) مهمّة لأكثر من نصف البلاد وتوجد اختصاصات إنتاج متنوّعة (حبوب، قوارص، عنب، تمور، زياتين خضراوات الخ…).
إلى جانب أنّ النشاط الفلاحي في تونس ورِث عن فترة الاستعمار المباشر درجة مهمّة من المكْنَنَة ومن تقاليد الإنتاج العصري. وتوجد على ذمّته اليوم مهارات فنّية وكفاءات عمل مهمّة. كلّ هذه المعطيات تُرشِّح الفلاحة التونسية لأن تكون متطوّرة وقادرة على تحقيق وفرة إنتاجيّة كبيرة وسدِّ حاجات الاستهلاك المحلّي والمساهمة بصورة مُعتبرة في الناتج الداخلي وفي تحقيق النّمو الاقتصادي.
أزمة القطاع الفلاحي
لكن وعلى العكس من ذلك ظلّت فلاحتنا متخلّفة، من حيث الهيكلة غير مندمجة بالدورة الاقتصادية ضعيفة الإنتاجية ومحدودة الطاقة التشغيليّة، ولا تساهم في النّاتج الخام وفي الصّادرات إلاّ بحوالي 10% فقط ولا تستقطب من الاستثمارات إلّا أقل من 10% كذلك وتشغّل بالكاد 15% من اليد العاملة النشيطة وتعدّ نسبة التأطير فيها من أضعف المعدلات مقارنة ببقيّة قطاعات الإنتاج الأخرى.
وما انفكّت صادراتنا تتراجع في المواد الفلاحية المعروفة (زيت الزيتون والتمور والقوارص) لأسباب تتعلّق بالجودة وبالمزاحمة في الأسواق التقليدية وكذلك الأمر بالنسبة إلى الأنشطة الموجّهة كليّا للتّصدير رغم “الحوافز” الممنوحة لأصحابها. هذا علاوة على أنّنا لم نتمكّن بعد من تحقيق الاكتفاء الذاتي في كلّ المنتوجات تقريبا وخاصة الحبوب واللحوم والحليب وبعض الخضر.
إنّ إهمال قطاع الفلاحة دفع بأعداد هائلة من سكّان الريف إلى النّزوح إلى المدن التي تحوّطت بأحزمة الفقر، ممّا زاد في تأزيم أوضاع الرّيف التونسي أكثر وبما بات يستوجب معالجة أوضاعه معالجة عميقة وجوهرية بعيدا عن التّرقيعات التي ظلّ النظام يردّدها دوريّا، بمناسبة ومن دونها.
الإصلاح الزّراعي مهمّة مستعجلة
لا شكّ في أنّ القضاء على الاستبداد كنظامٍ سياسيّ وضمان بناء نظام ديمقراطي شعبيّ يستوجب أساسا نمطا جديدا للتنمية يتكفّل بتمويله، تندرج ضمنه اختيارات جديدة وجذريّة لكلّ قطاعات الاقتصاد الوطني وخاصة قطاع الفلاحة. ويمكن تلخيص مجمل الاختيارات والإجراءات الواجب اتّخاذها لفائدة هذا القطاع تحت عنوانٍ جامعٍ هو القيام بإصلاح زراعي حقيقيّ. ويتمثّل ذلك في جملة من المحاور تتعلّق أوّلا بمعالجة مسألة ملكيّة الأرض وتصحيح أوضاعها، وثانيا بإعادة هيكلة فروع الإنتاج فيها وطُرُق تمويلها وربطها بالقطاعات الأخرى وبالبحث العلمي، وثالثا بإعادة تنظيم السّوق الداخلية في الجوانب التي تتّصل بها.
وريثما نعود إلى هذه المحاور بأكثر تفصيل نركّز فيما يلي من هذا المقال على مسألة مستعجلة تندرج ضمن محور مسألة الملكيّة. لقد أثارت التحرّكات الأخيرة في عدة مناطق من البلاد قضيّة ملكية الأرض وأحقّية استغلالها كقضية عاجلة لا تقبل الانتظار. وقد بادرت جماهير الفلّاحين وشباب الرّيف المهمّش بتقديم حلول واضحة ودقيقة. لكن عوض أن تتعاطى معها الحكومة بما تقتضيه استحقاقات الثورة، ورغم ما جدّ أثناءها من أحداث، فإنها، أي الحكومة، لم تُعِرْها اهتماما بل واجهتها باستعمال القمع وبالمحاكمات.
إنّ مهمّة أيّ حكومة تدّعي خدمة أهداف الثورة بالنسبة إلى سكان الرّيف هي اليوم إصلاح الأوضاع العقاريّة للأراضي الفلاحية، ويعني ذلك أوّلا تصحيح أوضاع الأراضي الاشتراكيّة التي لم تُسَوَّ قانونيا وعمليا بما سمح لكبار الرأسماليّين بالاستيلاء على مساحات منها وبما خلّف مظالم كُبرى ذهب ضحيّتها الفلاّحون الفقراء غير القادرين على مواجهة أصحاب السلطة والجاه. وفي إطار هذه التّسوية، ينبغي أن يقع استرجاع الأراضي التي تمّ الاستيلاء عليها في السّابق وإعادة تقسيمها على مقاييس جديدة تأخذ في الاعتبار حقوق الإرْث والاستقرار والمباشرة الفعليّة للنشاط الخ…
كما يعني الإصلاح أيضا تسوية نزاعات الملكيّة النّاشئة عن عمليّات السطو التي قام بها كبار الملّاكين العقاريّين وغيرهم في ظروف سابقة ولم يجدْ أصحاب الحقّ فيها طريقا لاستعادة أملاكهم بسبب تواطؤ السّلط السياسية والقضائية.
أمّا الأراضي الدولية فقد كانت مجال تلاعُبٍ وفساد كبيرين ونشأ عن ذلك أوْجُهٍ متعدّدة من المشاكل تستدعي حلولا متنوّعة تتراوح بين توزيع الأرض وبين بعث وحدات إنتاج جماعيّة. لقد منحت السلطة دون وجه حقّ لمسؤولين في الدولة وفي الحزب الحاكم، “التجمع”، وفي أجهزة الأمن والقضاء وفي الإدارة ورجال أعمال مقرّبين منها وحتى بعض المستثمرين الأجانب، مساحات كبرى من الأراضي التّابعة للدولة حيث أقاموا عليها شركات إحياء أو حوّلوها إلى نوع من الإقامات الثّانوية والأنشطة الترفيهيّة وفي بعض الحالات مارسوا فيها أشكالا من المُضاربة والسّمْسرة أو تخلّوا عن استغلالها بالوكالة لغيرهم مع الاحتفاظ بصفة التملك.
هذه الأوضاع المختلفة تستوجب حلولًا مختلفة. مفتاحها وشرطها الأساسي هو استرجاع هذه الأراضي وسحب تراخيص استغلالها وحلّ المؤسسات الوهميّة المُقامة عليها، ثم بعد ذلك إمّا توزيعها في شكل مقاسم فردية على مستحقيها لتثبيت سكّان الريف بها ولتوفير مواطن شغل جديدة ولتكثيف الإنتاج وتحسينه أو تنظيم وحدات إنتاج جديدة للعاملين بها وتنظيم تسييرها عن طريق مجالس إدارة منتخبة من بينهم بصورة دوريّة، وتتولى هذه المجالس تسيير عمليّات الإنتاج إداريّا وتقنيّا وإنتاجيّا ويمكن لها أن تنتدب تقنيّين سامين وعمّالا فلاحيّين حسب الحاجة، على أن يقع مساعدة هذه الوحدات عند انطلاقها بقروض ميسّرة وبالمشاتل وبأدوات الإنتاج. وفي جانب آخر لا بدّ أن تتدخّل الدولة لتسهيل عملية تسويق منتوجاتها وتشجيعها على بعث مجامع محليّة وجهويّة مختصّة.
كانت هذه انتظارات شباب وفلّاحي صاحب الجبل وهنشير عيّاد وبوجليدة والكريب وبورويس وسوق الجمعة وأولاد سلامة والشّويقي والدّخيلة من الثورة، وهذا ما كان على الثّورة الإيفاء به للشّباب. لكن حكومات الباجي والتّرويكا وما تلاها واجهتهم بالقمع والإحالة على المحاكم وافتعال القضايا ضدّهم.
ولئن خُيِّل للبعض أنّ هذه الصفحة قد طُوِيت وإلى الأبد وراح يعمل من أجل تمرير اتّفاقيات المهانة والخيانة لتسليم تُراب تونس العزيز للأوروبيّين والأتراك والقطريّين، فهو مُخطئٌ وستتكفّل الأيام في المستقبل بالجواب الحقيقيّ.