علي البعزاوي
الفساد ظاهرة مجتمعية موجودة في كلّ الأوساط لدى الأشخاص وفي المؤسّسات والأحزاب وفي السلطة ولدى الشّباب والرجال والنساء, في المدينة والريف وفي الدّول الغنيّة والفقيرة على حدّ سواء.
زمن الدكتاتورية كان الفساد حكْرًا على العائلات المتنفّذة المرتبطة بالسّلطة وأعوانها هنا وهناك. ومثلما نجحت الدكتاتورية لردح من الزمن في التحكّم في معارضيها ومنعهم من النشاط والحركة، فقد نجحت أيضا في احتكار الفساد وضبط ايقاعه على وقع مصالحها الضيّقة. أمّا بعد 14 جانفي فقد اتّسعت رُقعته. ومثلما سمحت الديمقراطية بتعدّد الأحزاب والجمعيّات وفتحت الأبواب أمام حقّ النشاط المنظّم والحرّ، فقد فتحت أيضا المجال للفساد لكي يتّسع وينتشر. وقد ارتفعت عديد الأصوات للتّنديد بهذا المسؤول أو ذاك وطالبت بفتح الملفّات، لكن دون آذانٍ صاغية من المسؤولين، وهذا يطرح أكثر من تساؤل خاصّة في هذا الظرف الوبائي ومخلّفاته اللّعينة التي تتطلّب الصّرامة والشّفافية للخروج بالبلاد من أزمتها.
الاستثمار في الفساد
إذا كان الحكم راعيا للفساد من زاوية الدّفاع عن عرشه وأتْباعه وزبانيّته ويرى في ذلك بعض المشروعيّة مستعملا وسائل المُغالطة وموظّفا مؤسّسات الدولة المختلفة، الإعلامية والقضائيّة وغيرها، إلى جانب تطويع القانون الذي يوضع أحيانا وبعناية على القياس (حادثة السيارة التي تقودها إبنة الوزير – حادث الكمّامات- ملفّ الهِبَة الصّينية التي حوّلها وزير خارجية سابق لحساب خاص وغيرها من الملفّات) أو يستغلّ موقعه كسلطة تنفيذية لفتح ملفّات من الحجم الثقيل ليس لمحاربة الفساد أينما وجد طبعا، بل لتصفية الخصوم السياسيين (ملف شفيق الجراية والمجموعة المصاحبة له)، فإن بعض المعارضين استثمروا بدورهم في الفساد وطالبوا بفتح الملفات ومعاقبة الجُناة وبضرورة التصدّي إلى الظاهرة ومعالجتها.
بعض الأحزاب ركّزت على رفع شعار مقاومة الفساد ولم تكدْ تخلو مناسبة أو تدخّل في البرلمان إلّا وتطرّق نوابها لملفات جدّية. ويمكن القول أن رصيدها السياسي وقع إثراؤه وتطويره وكسبت مزيد الموالين والأنصار والأصدقاء وحصلت في الانتخابات الأخيرة على نسبة هامّة من الأصوات بسبب التّركيز حصريّا على هذا الملف الحساس، لكنّها سرعان ما بدّلت موقفها بمجرّد التحاقها بعربة الحكم.
مقاومة الفساد مرتبطة بالمشروع
إنّ السؤال الذي يطرح نفسه بالحاح هو التالي: لماذا يسكت الحزب الذي عُرِف بدفاعه المستميت عن محاربة الفساد ويصمت نوّابه بمجرد تحوّلهم من موقع المعارضة إلى موقع الحكم، والحال أنّهم أقدر على النجاح في هذه المهمة من هذا الموقع باعتبار الصّلاحيات التنفيذيّة المُتاحة لهم؟ فما الذي يبرّر هذا السكوت وهذا الاستنكاف؟
أُولَى الأجوبة التي تتبادر إلى الذّهن هو أن المواقف يمكن أن تتغيّر بتغيّر المواقع، وأنّ رفع هذا الشعار كان من زاوية انتهازيّةٍ لكسب الأصوات. لكن هل يُعقل الاكتفاء بهذا الجواب لغلق الملف والاستنتاج أنّ كل حزبٍ هو مع الفساد عندما يكون في الحكم وضدّه عندما يكون في المعارضة؟
هناك حقيقة ملموسة لا يمكن التّغافل عنها وتتمثّل في كون الأنظمة والأحزاب اليمينيّة التي تدافع على مصالح الطبقات والفئات المالكة للثروات الكبرى، حتى وإن رفعت شعار مقاومة الفساد فإنّها لا يمكن أن تذهب في ذلك بصورة متماسكة وإلى النهاية. فخدمة مصالح السّماسرة وكبار الرأسماليين تتطلّب رشاوي وخدمات وامتيازات لكلاب الحراسة وتوظيفًا للقانون وتطويعًا للإعلام لحماية هذه المصالح بما في ذلك إسناد المناصب والوظائف الهامّة في مؤسّسات الدولة التي عادة ما تستفيد منها البورجوازية الصغيرة لجرّها إلى مربّع البورجوازية الكبيرة وتسخيرها لخدمتها. وفي هذا السّياق تتنزّل التّعيينات العشوائيّة في مختلف المؤسّسات التي أقْدم عليها رئيس الحكومة السابق (حوالي 500 وظيفة) أيّامًا قبل رحيله في محاولة منه لتسخير مؤسّسات الدولة لصالح حزبه، وهي رشوة سياسيّة بامتياز الهدف منها التّمهيد للعودة إلى الحكم. وفي نفس السياق نفهم أيضا تعيين رئيس الحكومة الحالي لمستشارين من حركة النهضة دون اعتبار للكفاءة ولا للأزمة المالية الخانقة التي تعيشها البلاد إرضاءٌ لهذا الحزب من أجل الحصول على الدّعم والتأييد والاستمرار في الموقع. بل إنّ بعض المُتابعين تحدّثوا عن هذه التّعيينات كمقابل للتّصويت لصالح حكومة الفخفاخ عند عرضها على البرلمان، وهذا أيضا فساد من الحجم الثقيل لأنّه بمثابة الرّشوة التي تُقدَّم لهذا الحزب مقابل التّأييد.
مقاومة الفساد جزء لا يتجزّأ من عمليّة التغيير
نُدْرك بلا شكٍّ ارتفاع الأصوات خلال الأشهر الأولى من الثّورة لمعاقبة جرائم الفساد التي تشكّلت لأجلها اللّجان مركزيّا وجهويّا مثلما ندرك حجم الملفّات التي وقع تجميعها وتقديمها إلى العدالة، وهو ما يؤكّد ارتباط المسألة بالأهداف المُراد تحقيقها، لكن أغلبها للأسف لم يَرَ النّور. إضافة إلى أنّ بعض من تحمّلوا هذه المسؤولية وقعت تصفيتهم (عبد الفتاح عمر مثالا). والثورة المضادة هي من يقف وراء ذلك لأنّ لها مصلحة في لَجْمِ هذا الاندفاع نحو المُحاسبة.
كلّ الأحزاب اليمينيّة بوجهيْها الأصولي والحداثي وكذلك الأحزاب البورجوازية الصغيرة التي حكمت تونس بعد 14 جانفي سكتت على الفساد ولم تُقاوِمْه مقاومةً جديّةً، بل رعَتْه لأنّ بقاءها في الحكم وخدمة مصالح الطبقة المُهيْمِنة اقتصاديّا في البلاد، وأعني البورجوازية الكبيرة العميلة، تقتضي ذلك السلوك. وفي هذا السّياق يتنزّل الدفاع المُستميت عن قانون المصالحة الاقتصادية الذي رفعه السبسي، مثلما نفهم خلفية اتّخاذ الفخفاخ لإجراء تأجيل خلاص الديون الجبائية والديوانية لمدة 7 سنوات وقيمتها 10 آلاف مليار لصالح كبار الرأسماليين، وهو إجراء لا علاقة له بتداعيات أزمة كورونا.
الفساد هو لَازِمة للرّأسمالية وأحد ركائزها الأساسية ولن ينتهي إلّا بسقوطها
وحدها القوى الثورية والتقدّمية قادرة على اجتثاث الفساد ومقاومته مقاومة جدّية ومتماسكة، لأنّ ذلك جزءٌ من مشروعها الوطني الديمقراطي الاجتماعي. فالاشتراكية ضدّ التّمايز الطبقي وضدّ الاستغلال وضدّ المصالح الضيقة والفئويّة. وهي ليست بحاجة إلى دفع رشاوي وامتيازات للحفاظ على مصالحها التي لا تختلف عن مصالح الأغلبية. وتجربة الدولة السوفياتية غنيّة بهذه المعاني، فلينين وستالين وكلّ القيادات التاريخية للاشتراكية التي لفَّقت لها البورجوازية في إطار تشويهها وخلق حالة من الارتياب حولها كلّ أنواع التُّهم, لم تترك أرصدةً في البنوكِ ولا عقاراتٍ ولا أيّ نوع من أنواع الامتيازات التي تجعلها محلّ شبهاتٍ أو إدانة. فالسّمة الأساسية للاشتراكية هي النّقاوة والشّفافية ونظافة الأيدي، وهي جزءٌ لا يتجزّأ من المشروع المجتمعيّ الذي تدافع عنه.
الاشتراكية هي نقيضٌ للفساد، وبقضائها على التّمايز الطبقي تحمي المجتمع من هذا الوباء الفتّاك.