عمر حفيّظ
عائد إلى حيفا ( غسّان كنفاني)
(…) لقد أخطأنا حين اعتبرنا أنّ الوطن هو الماضي فقط (…) الوطن (…) هو المستقبل.
ذاك ما قاله “سعيد. س” لزوجته صفيّة، وهما يعودان إلى حيفا عن طريق القدس، بعد عشرين سنة من الغياب.
كانا لاجئيْن في الأردن، واليوم الثّلاثاء من حزيران 1967 ها هما يستقلاّن سيّارة “فيات” رماديّة اللّون تحمل رقما أردنيّا، ليعودا إلى حيفا عبر المرج الذّي كان يسمّى مرج ابن عامر، قبل عشرين سنة.
للزّمان (بعد عشرين سنة) ثقله ووطأته ،،، وللمكان (حيفا، القدس، مرج ابن عامر، شارع الملك فيصل، البحر، وادي النسناس، ساحة الحناطير… ) سلطته وذاكرته.
ولا شيء يفسّر حنين “سعيد.س” وصفيّة إلى حيفا غير أنّهما فقدا كلّ شيء عندما خرجا منها قبل عشرين سنة، فقدا الكلام والهويّة والذّاكرة والإحساس بطعم الحياة، بل إنّهما فقدا جزءا منهما هو “خلدون” الصّغير.
يبدأ السّرد في الحاضر، الآن وهنا “سعيد.س” يصل إلى مشارف حيفا ومعه زوجته صفيّة، ولكن السّارد يوغل أكثر في الماضي ليعود إلى لحظة فارقة في التّاريخ، تاريخ فلسطين وتاريخ العرب، بل تاريخ العالم، سنة 1948سنة جريمة عالميّة، تُغتصَب فيها أرض ويشرّد فيها شعب بقرار أمميّ (الأمم المتحدّة الولايات ؟ المتحدّة) ويُسْتنبتُ فيها كيان صهيونيّ امبرياليّ غاصب !!
لم يغتل الشهيد غسّان كنفاني (1936-1972) إلاّ لأنّه كان يؤرّخ سرديّا وإبداعيّا لما حصل بتواطؤ من العالم بأسره. والتّأريخ الإبداعيّ بمختلف أنواعه (الأقصوصة، القصة، الرّواية، المسرح، الشعر…) هو الذّي يقلق المستعمر ويربك الطّغاة أكثر، ربّما…
التّأريخ الإبداعيّ يربك أكثر من التّاريخ الرّسميّ، لأنّ التّاريخ الرّسميّ يكتبه المنتصرون أو الغالبون وفق أهوائهم… أمّا التأريخ الإبداعيّ فيكتبه المبدعون والمثقّفون بوجدان شعوبهم وإيقاع ذواتهم وأحلام الأجيال القادمة، أجيال “خلدون” الصّغير الذّي تركه “سعيد.س” وصفيّة وعادا يبحثان عنه.
التّاريخ الرّسميّ تاريخ أفقيّ، أمّا التّأريخ الإبداعيّ فإنّه عموديّ تماما كالزّمن الشّعري لدى غاستون باشلار (Gaston Bachelard)
في التّأريخ الإبداعيّ كتابةً وقراءةً، ينفتح الكائن على الأزمنة كلها باعتبارها متخيّلا، ويتكثّف الكون في لحظة للإحساس بشيء ما. إحساس بالقوّة ونسيان العدم في:
- إذا الشّعب يوما أراد الحياة فلابدّ أن يستجيب القدر
- على هذه الأرض ما يستحقّ الحياة (محمود درويش)
- وإحساس بالأسى والفقد من جهة وإصرار على الوطن والحياة في “عائد إلى حيفا” من جهة أخرى.
وما يستحقّ الحياة” متعدّد عصيّ على العدّ والاختزال، يبدأ من زمن الأساطير مرورا بصباح الإربعاء، 21 نيسان، عام 1948 وصولا إلى المستقبل !!
زمن شاهد، على أنّ الانكليز مرّوا من هنا، كما مرّ غيرهم وصولا إلى زمن الصّهاينة وأمريكا! صباح الإربعاء، 21 نيسان، عام 1948 قد يكون تأريخا لحدث مرجعيّ واقعيّ حقيقيّ. وحتّى إن لم يكن كذلك، فإنّه ممّا يقتضيه السّرد. ففي تثبيت الزّمن تثبيت للذّاكرة لأنّ البناء الزّمنيّ في هذا النصّ بناء تداعٍ ، قادحُه المكان: حين وصل “سعيد.س” إلى مشارف حيفا(…) أحسّ أنّ شيئا ما ربط لسانه وأخذت الأسماء تنهال في رأسه كما لو أنّها تنفض عنها طبقة كثيفة من الغبار: وادي النّسناس، شارع الملك فيصل، ساحة الحناطير، الحليصة، الهادار، واختلطت عليه الأمور فجأة، ولكنه تماسك، وسأل زوجته بصوت خافت :
-“حسنا، من أين نبدأ ؟”
وفجأة جاء الماضي حادّا مثل سكّين (…) صباح الإربعاء، 21 نيسان، عام 1948 كانت حيفا مدينة لا تتوقّع شيئا (…) كان “سعيد.س” في قلب المدينة (…) كان قد تزوّج قبل عام وأربعة أشهر من صفيّة…
يوغل السّارد في الماضي، في التذّكر والاسترجاع، ويوغل غسّان كنفاني في بناء ما به يقوّي دلالة الانتماء، كتعديد الأمكنة وتسميتها بأسمائها: وفجأة اختلطت عليه الأمور وتشابكت الأسماء: الحليصة، وادي ريشما، البرج، المدينة القديمة، وادي النسناس…
اختلطت عليه الأمور لحظة القصف، صباح الإربعاء 21 نيسان عام 1948، وهاهي تختلط عليه، مرّة أخرى، لحظة عودته إلى حيفا، الآن! والجسر الدلاليّ الرمزيّ الواصل بين لحظتي الاختلاط هو “خلدون” الصغير الذي كان قد أتمّ يوم الاربعاء بالذات شهره الخامس ” ذلك هو الشيء الوحيد الذي مازال يحسّ طعمه تحت لسانه، حتّى في هذه اللحظات التّي تبعد عشرين سنة عن المرّة الأولى التي حدث فيها ذلك”
في ذلك اليوم، الإربعاء 21 نيسان 1948 اجتاح الانقليز والصّهاينة حيفا. كانت صفيّة في بيتها تلازمه خائفة تنتظر ما سيحدث وكان “سعيد.س” يدُفع دفعا كغيره من الفلسطينيين نحو الميناء والبحر حيث الزوّارق تنتظر.
أطرد الصهاينة “سعيد.س” وصفيّة بالقوة ولكن بقي “خلدون”.
“سعيد.س” هو أبو خالد، له ابن اسمه خالد وبنت اسمها خالدة. أمّا “خلدون” فقد بقي في حيفا. وكان سعيد وزوجته صفيّة حين يتحدّثان عنه يقولان “هو” وحتّى خالد وخالدة لم يعرفا أنّ لهما أخًا اسمه “خلدون”.
ترك “سعيد.س” وصفيّة خلدون في حيفا فسمّيا من أنجبا بعده “خالد” و”خالدة”. خلدون خالدة خالدة جسور رمزيّة وصلات سريّة تمتدّ بين الإنسان والزّمان والمكان. وفجأة أطلّ المكان -المنزل، المنزل ذاته، ذلك الذّي عاش فيه ثمّ عيّشه في ذاكرته طويلا (…) لوهلة خيّل إليه أنّ صفيّة، شابّة وذات شعر مجدّل طويل ستطلّ عليه من هناك (…) وفجأة أخذت صفيّة (كانت بجانبه في السيّارة) تبكي بصوت مسموع، أمّا هو فقد انحرف، إلى اليمين، وترك عجلات سيّارته تصعد الرّصيف الواطئ، ثمّ أوقف السيّارة في المكان الذّي لها، كما كان يفعل –تماما- منذ عشرين سنة.
“خلدون” بقي في حيفا و”سعيد.س” وصفية يعودان للبحث عنه. هل هما يعودان إلى المكان – المنزل أم إلى خلدون أم إلى الذّاكرة أم إلى ما هو أكبر من ذلك كلّه ؟ إلى فلسطين ؟! …وجدا في منزلهما عجوزا تلبس “ثوبا أزرق منقطا بكريات بيضاء”
أليست هذه هي ألوان العلم “الإسرائيلي” ؟!
صورة القدس في مكانها معلّقة حيث كانت، ومزهريّة فيها ريشات طاووس كان يعرف أنها سبع ريشات ولكنّه وجد خمسا فقط ؟
السّتائر السكريّة اللّون عوضّتها ستائر ذات خطوط زرقاء متطاولة. مرة أخرى يحضر اللّونان الأزرق والأبيض بدلالتيهما (الاستيطان، الاستعمار، الغصب، التّهجير القتل، التّشريد، الاعتقال…) وتحضر في المقابل القدس وريشات الطاووس، سبع ريشات بقيت منها خمس، لم تبق ستّ ريشات.
هل للعدد دلالة ما ؟
ستّ ريشات (العدد 6) هي الزّوايا الستّ في نجمة العلم الصهيونيّ، لذلك استبعد غسّان كنفاني العدد (6) أمّا دلالات الطاووس الرّمزيّة فمتعددة. والمتواتر منها أنّه رمز الشّمس والخلود والمقدّس.
بين الخلود وخلدون تشابك في الدّلالة. ولكن هل يعني نقصان ريشتين من ريشات الطاووس (رمز الخلود) تغيّرا في “خلدون” الذي عاد “سعيد.س” وزوجته صفيّة لرؤيته بعد عشرين سنة تغيّرت فيها أمور كثيرة.
“كان هنا سبع ريشات ماذا حدث للرّيشتين المفقودتين؟
ذاك ما قاله “سعيد.س” للعجوز صاحبة الثّوب الأزرق المنقّط بكريات بيضاء، القادمة من بولونيا أوّل آذار (مارس) 1948 إلى حيفا لتقيم في البيت (بيت “سعيد.س” وصفيّة وخلدون)
الجواب هو أنّ “دوف” قد يكون لعب بهما وضيّعهما، “دوف” اسم لا معنى له بالنّسبة إلى “سعيد.س” وصفيّة ولكنّ العجوز نبّهت “سعيد.س” إلى أن “دوف” يشبهه.
في الفصل الثّالث يعود السّارد إلى ترتيب الأحداث مسترجعا ما كان قد حدث يوم الاربعاء 21 نيسان 1948، يوم غادر “سعيد.س” وصفيّة، حيفا، على متن زورق بريطانيّ أرسى بهما على شاطئ عكّا. ومن 21 نيسان إلى 29 نيسان 1948، حدثت أشياء كثيرة في حيفا: جاء “افرات كوشن” وزوجته صاحبة الثوب الأزرق من بولونيا وفتح لهما رجل من عصابات الهاغاناه بيت “سعيد.س” في الحليصة.
يُغتال الفلسطيني أو يخرج مطرودا من أرضه، من منزله، ليحلّ مكانه وافد من مكان ما، من هذا العالم.
ويوغل السّارد أكثر في الماضي، فيسترجع ما حدث عام 1947 (قرار التّقسيم) في إشارة خاطفة، ثمّ يسرد، على نحو من التناظر، حدثين :
– كانت ميريام (صاحبة الثوب الأزرق) زوجة “أفرات كوشن” قد رأت شابين من الهاغاناه يحملان شيئا ويرميانه في صندوق شاحنة صغيرة، كان ذاك الشيء طفلا عربيّا مكسوّا بالدّم. وعندما سألها زوجها كيف عرفت أنّه عربيّ ؟ أجابت : ألم تر كيف ألقوه في الشاحنة كأنّه حطبة ؟ ولو كان يهودّيا لما فعلوا ذلك”
كانت ميريام قد هربت إلى جيرانها بعد أن داهم الجنود الألمان منزلها الذي كانت تعيش فيه مع زوجها في بولونيا. لم يجد الألمان أحدا في المنزل الفارغ. ولكنّهم صادفوا أخاها الصّغير قادما إليها ليخبرها باعتقال والدها “اوشفيتز”. يرى الطفل الجنود فيهرب مديرا ظهره إليهم. فيطلقون عليه الرّصاص.
الضّحيّة -إذا صدّقنا أنّه كان ضحيّة –يصبح جلاّدا، ميريام تتحوّل من ضّحيّة إلى جلاّد تستولي على بيت غيرها أو تهبه لها الوكالة اليهودية في حيفا وتهبها معه طفلا عمره خمسة شهور. هل هو خلدون ؟! ألا يكون خلدون قد ما… ؟ ما اسم هذا الطّفل؟ “خلدون” أم “دوف”؟
لهذه الأسئلة ما يبّررها. فالحكاية ستنفتح على احتمال آخر وسيضاعف السّارد حيرة القارئ.
“تورا زونشتاين” مطلقّة تسكن في الطّابق الثالث مع ابنها، بيتها فوق بيت “سعيد.س” تماما تسمع بكاء في بيت سعيد. فتحطّم الباب لتجد طفلا صغيرا في مهده يبكي وتسلّمه بعد ذلك إلى الوكالة اليهوديّة. هل الطّفل الذّي سلمته “تورا زونشتاين” هو “خلدون – دوف” ؟
لماذا غيّروا اسمه ؟ وما معنى أن تربيّ ميريام طفلا عربيّا ؟
تقول ميريام لسعيد “أنا أعرف أباه، وأعرف أيضا أنّه ابننا ومع ذلك لندعه يقرّر بنفسه، لندعه يختار. لقد أصبح شابا راشدا. وعلينا نحن الاثنين أن نعترف بأنّه هو وحده صاحب الحقّ في أن يختار… أتوافق ؟
يبدو اقتراح ميريام، في ظاهره، منطقّيا (الطّفل الذّي أصبح راشدا سيختار) ولكن أي منطق شقيّ هذا ؟! وأي عالم مقلوب هذا ؟!
ويأتي الجواب من “سعيد.س” ربّما كان لا يعرف على الإطلاق أنّه ولد من أبوين عربيّين (…) لقد بدأت الجريمة قبل عشرين سنة (…) بدأت يوم تركناه هنا”
الآن، وهنا يتوقّف سرد حكاية “سعيد.س” وصفيّة وخلدون ليبدأ سرد حكاية أخرى هي حكاية فارس اللّبدة الذي عاد من الكويت، بعد عشرين سنة، إلى يافا:
“هذا المكان الذّي تسكنه هو بيتي أنا، ووجودك فيه مهزلة محزنة ستنتهي ذات يوم بقوّة السّلاح. تستطيع إن شئت أن تطلق عليّ الرّصاص هذه اللّحظة، ولكنّه بيتي، وقد انتظرت عشرين سنة لأعود إليه”
ذاك ما تحدّى به فارس اللبدة ساكن بيته. ولكن المفاجأة، في هذه الحكاية، أنّ السّاكن الجديد فلسطينيّ من يافا، من المنشية تحديدا. هدّم المستعمر منزله في حرب 1948 فاستأجر بيت فارس اللبدة ووجد فيه صورة لأخيه الشّهيد بدر اللبّدة (بدر وفارس أخوان) الذّي حمل السّلاح سنة 1947 وبعد سنة اُستشهد وظلّت صورته معلّقة. وعندما وجد اليافاوي الصّورة أصرّ على البقاء في البيت: “كنت أشعر أننّي لو تركته لكنت ارتكبت خيانة لا أغتفرها لنفسي”. بل إنّ هذا الرّجل الذي اكترى المنزل سمّى أحد أبنائه بدرا:
“أجل سمّيناه على اسم أخيك الشهيد”
ويخطر لفارس اللّبدة أن يسترد صورة أخيه فيأخذها معه إلى رام الله، ولكنّه يعود بها إلى يافا، من منتصف الطريق ليثبتها في مكانها في المنزل الذّي كانت معلّقة فيه… استرداد الصّورة لم يكن كافيا، كان لابدّ من استرداد البيت ويافا وحيفا… بل فلسطين لذلك قرّر فارس اللّبدة أن يحمل السّلاح !
ههنا تنتهي حكاية فارس اللبدة وأخيه الشّهيد بدر، ولكن حكاية “سعيد. س” لم تنته. حكاية فارس اللبدة اعتراضيّة كالجملة الاعتراضيّة يحشرها المتكلّم بين المكونّات الأصليّة لخطابه لتأدية غرض ما.
“وعلى الطّريق هدر صوت محرّك…” بهذا الصّوت الهادر نعود إلى حكاية “سعيد.س” الباحث عن ابنه خلدون (هل هو دوف؟)
“دوف” يدخل منزله – منزل “سعيد.س” تخاطبه ميريام (أمّه ؟ مربّيته) بالانقليزيّة، ويظهر “دوف” في بزّته العسكريّة :
“أريد أن أقدم لك والديك… والديك الأصلييّن “
ذاك ما قالته ميريام لدوف، وهو يقف حائرا ينقل بصره بين ثلاثة وجوه ميريام و”سعيد.س” وصفيّة كان الردّ فاجعا، عنيفا، مربكا!
“أنا لا أعرف أمّا غيرك، أمّا أبي فقد قُتل في سيناء قبل 11 سنة ولا أعرف غيركما”
تحريف لحقيقة صغيرة وتاريخ شخصيّ بسيط يوازيه تحريف لحقائق كبرى وتاريخ وطن وشعب، تلك هي الحكاية الأمّ، في البدء والمنتهى !
حرب بالسّلاح وحرب بالكلام، حرب في الجغرافيا وحرب على التاريخ، ويخطر لـ”سعيد.س” أن يسأل “دوف”:
-“أنت في الجيش ؟ من تحارب ؟ لماذا؟
-“ليس من حقّك أن تسأل هذه الأسئلة. أنت على الجانب الآخر”
والأفظع من الردّ السّابق:
“منذ صغري وأنا يهوديّ أذهب إلى الكنيس وإلى المدرسة اليهوديّة وأكل الكوشير وأدرس العبريّة … وحين قالا (ميريام وايفرات) لي أننّي لست من صلبهما لم يتغيّر أيّ شيء وكذلك حين قالا لي بعد ذلك إنّ والديّ الأصلييّن هما عربيّان ولم يتغيرّ أيّ شيء”
والأشدّ إيلاما والأعنف وقعا بالنسبة إلى “سعيد.س” وصفيّة:
“بعد أن عرفت أنّكما عربيّان كنتُ دائما أتساءل بيني وبين نفسي : كيف يستطيع الأب والأم أن يتركا ابنهما وهو في شهره الخامس ويهربان ؟ وكيف يستطيع من هو ليس أمّه وليس أباه أن يحتضناه ويربيّاه عشرين سنة ؟ عشرين سنة ؟
وما لا طاقة لهما على احتماله “كان عليكم ألاّ تخرجوا من حيفا. وإذا لم يكن ذلك ممكنا، فقد كان عليكم بأيّ ثمن ألاّ تتركوا طفلا رضيعا في السّرير. وإذا كان هذا أيضا مستحيلا فقد كان عليكم ألاّ تكفوا عن محاولة العودة… أتقولون أنّ ذلك أيضا كان مستحيلا ؟ لقد مضت عشرون سنة يا سيّدي. عشرون سنة ماذا فعلت خلالها كي تستردّ ابنك ؟ لو كنت مكانك لحملت السّلاح “
لقد قرّر فارس اللّبدة في الحكاية الاعتراضيّة أن يحمل السّلاح. وها هو خلدون – دوف (لا يهمّ) يحرّضْ أباه الأصليّ -أباه المفترض (لا يهمّ مرّة أخرى) على حمل السّلاح. عاد “سعيد.س” وصفّية يبحثان عن ابنهما خلدون بعد عشرين سنة، فوجدا شخصا آخر اسمه “دوف” يحرّضّهما على حمل السلاح لأنّ ما يعيد خلدون إلى ذاته وأهله وما يعيد البيت من ميريام إلى صفيّة وما يعيد فلسطين إلى شعبها، هو خالد الابن الأصغر الذّي سيحمل السّلاح :
(…) لقد أخطأنا حين اعتبرنا أنّ الوطن هو الماضي فقط، أمّا خالد فالوطن عنده هو المستقبل (…) إنّ “دوف” هو عارنا، لكن خالد هو شرفنا الباقي… ألم أقل لك منذ البدء(…) أن ذلك يحتاج إلى حرب ؟
وهل قال محمود درويش غير هذا بعد ستّ وعشرين سنة في ديوانه “لماذا تركت الحصان وحيدا (رياض الرّيس، الطّبعة الأولى 1995، ص 166)
… لن تنتهي الحرب ما دامت الأرض فينا تدور على نفسها.
إنّ الحياة لا تُفهم إلاّ من خلال القصص التي نرويها عنها، كما يقول ريكور (Paul Ricoeur) لذلك كان لا بدّ لغسّان كنفاني أن يكتب، وكان لا بدّ لراويه أن يروي حتّى يفهم “سعيد.س” وزوجته صفيّة، ونفهم نحن معهما أنّ “عائد إلى حيفا” لم ترو إلاّ لتؤكّد أن الخلفيّة التي توّجه غسان كنفاني في كتاباته السرديّة هي تثبيت المكان – الكيان، لمقاومة النّسيان وأباطيل “الإسرائيلي”-الصّهيونيّ ومرويّاته الكبرى التي شوّهت الحقائق وقلبت الوقائع.
إنّها الكتابة–الحرب، استعارة تصوّرية بتوسيع في الدّلالة والآليّات والمقاصد. وفي ما قاله محمود درويش، سند إبداعيّ – معرفيّ لما كنّا نشير إليه:
وفي الصحراء قال الغيب لي:
اكتب
فقلت : على السّراب كتابة أخرى
فقال : اكتب ليخضرّ السّراب
فقلت : ينقصني الغياب
وقلت : لم أتعلّم الكلمات بعد
فقال لي : أكتب لتعرفها
وتعرف أين كنت، وأين أنت
وكيف جئت، ومن تكون غدا
ضع اسمك في يديْ واكتب
لتعرف من أنا، واذهب غماما
في المدى
فكتبت: من يكتب حكايته يرث
أرض الكلام ويملك المعنى تماما (لماذا تركتَ الحصان وحيدا، ص 112)