شريف خرايفي
كما للعمّال يوما كونيّا للاحتفاء به، يوم غرّة ماي من كلّ سنة، فإنّ للمعطّلين والمهمّشين أيضا يوم خاصّ بهم، يخلّد ملاحمهم ويرصّ صفوفهم ويعمّق تجاربهم.
يعود سياق إقرار يوم 16 ماي “يوما عالميّا للنضال ضدّ البطالة والتهميش”، إلى الجلسات التحضيرية لـ”التنسيقية النقابيّة المتوسّطية” التي انتظمت منذ سنة 2011، وجمعت منظّمات نقابية واجتماعية لدول المتوسّط (أوربية ومغاربية)، وكان أحد عناصرها الفاعلة اتّحاد أصحاب الشهادات المعطّلين عن العمل الذي انخرط صلبها مباشرة بعد الثورة وكان أحد أعضاء هذه التنسيقيّة ومن الدّاعين إلى هذا اليوم، ثمّ تمّت المصادقة رسميّا على هذا اليوم على هامش المنتدى الاجتماعي العالمي المنعقد في تونس في مارس 2013.
لماذا يوم عالمي للمعطّلين؟
لقد عمل اتّحاد أصحاب الشهادات المعطّلين عن العمل منذ تأسيسه في 25 ماي 2006، وحتى في الفترة التي سبقت التّأسيس، وهي أيضا فترة نضال ميداني ونقاش فكري وعملي، على أن يجمع بين النّضال ضدّ البطالة ومسبّباتها من أجل نيل الحقّ في الشغل، وبين توفير الأدوات (التنظّم الهيكلي) التي بالإمكان استعمالها للوصول إلى هذه الغاية، وبين التسلّح ببرنامج عملي لوضع المقترحات الملموسة، المباشرة منها والاستراتيجيّة.
وجاءت وثائقه التّأسيسيّة لتؤكّد أنّه لا يمكن توفير الشغل لجميع المعطّلين (بالإمكان توفير بعض مواطن الرزق أو لقسم من المعطّلين تحت وقع الضغط والاحتجاج) في ظلّ الانغلاق والاستبداد السياسي، كما لا يمكن ادّعاء الديمقراطيّة السياسية في ظلّ الحرمان الاجتماعي والتدهور الاقتصادي والفشل التّنموي. فلكلّ منظومة سماتها وشروطها ومناخها وتعبيراتها. ومن الصعب أن يتعايش أحدهما مع الآخر، فالديمقراطية يجب أن تكون في جميع أبعادها: سياسيّة واقتصاديّة واجتماعيّة وثقافيّة وقيميّة وأخلاقيّة. أمّا الدّكتاتوريّة فهي لا تنمو ولا تترعرع إلاّ في ظلّ الخراب الاقتصادي والغبن الاجتماعي والانحطاط الأخلاقي والتّراجع الإبداعي.
لقد غدت البطالة ظاهرة تؤرق الشعب التونسي وتتنامى باستمرار، لأنّها ربيبة لتلك السياساتٍ والخياراتٍ المتّبعة وليست قضاء وقدر. وهي، أي البطالة، ليست ظاهرة محلّية معزولة في تمظهراتها وفي أسبابها، بل هي سِمَة ملازمة للمنظومة الاقتصادية المُهيمِنة (الرّأسمالية) وللخيارات التي تنتهجها الأنظمة، إنْ على صعيدٍ سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي …الخ. وطبيعي أن ترتفع نسبة البطالة، خاصّة في صفوف حاملي الشهادات العليا (جامعية) أو المهنية (مراكز التكوين المهني) نظرا لانخراط النّظام التونسي ضمن هذه المنظومة العالميّة في تبعيّة مهينة وذليلة، وفيّا لتوجيهات بارونات المال والأعمال المتحكّمين في مصائر الدّول والشعوب. فأطلق العنان للصوص المال لتعيث فسادا في التّعليم وفي التّكوين كما في الصحّة والتشغيل، ورفعت الدّولة يدها عن هذه الأدوار لتصبح مجالا مغرٍ للخوصصة والمضاربة والسّمسرة والابتزاز.
الانخراط إذا في منظّمة اتحاد أصحاب الشهادات المعطّلين عن العمل كان على قاعدة هذه القراءة وبتبنّي هذه المقاربة القائلة بأن القضاء على البطالة أمر صعبٌ ولكنّه ممكنٌ، وهو مرتبط بالنّضال ضدّ أسبابها وضدّ الظّروف والشروط التي خلقتها. والانتقال من وضعيّة “العَطَالة” إلى وضعية الإنتاج وخلق قيمة مُضافة (العمل) تستوجب مواجهة القوى والجهات التي خلقت جيش المعطّلين والمهمّشين واستفادت منهم، وهي الفئة (والطّبقة) التي تُراكم ثرْوتها من خلال السّمسرة بهذا الجيش الاحتياطي والاحتيال عليه.
إنّ النّضال ضدّ البطالة، لا يكون فقط محلّيا، أي ضدّ النظام ومنظومته اللاّشعبية واللاّديمقراطيّة، وإنما ضدّ الخيارات التي يطبّقها بالقمع ورغم أنف الشعب التونسي. وهذا ما خلق القناعة أنّ مقارعة البطالة يجب أن يقترن بمطلب السّيادة والحقّ في التمتّع بثروات ومقدّرات البلاد، لا أن نكون خدما ومجرّد أدوات لخلق الثروة وتصديرها لمافيا المال الأجانب. ولن يكون ذلك ممكنا ولا مقنعا دون أن ننطلق من فهمنا لها كمعضلة كونيّة، ودون أن يكون نضالنا ضدّها مُعوْلَمًا أيضا، باعتبار أن الرّأسمال لا وطن له ومصالحه عابرة للقارّات وللأوطان، واستغلاله ونفوذه عابر أيضا للحدود والجنسيّات. فكان إحدى عناوين هذه المعركة هو توسيع دائرة النضال المشترك ضدّ منظومة الاستغلال والاستعباد وخلق الأطر التنظيميّة لحشد المتضرّرين منها، وفي طليعتهم النّقابات العمّاليّة و حلفائهم الموضوعيّين من المعطّلين والمهمّشين.
واليوم ونحن نعيش على وقع جائحة وبائيّة لم نشهد لها مثيلا، يبدو أنّ متغيّرات جذريّة بصدد الحدوث، على مستوى جيوسياسي أو اقتصادي أو عسكري أو تكنولوجي وحتى فلسفي وعلمي، ويبدو أنّ العالم مفتوح على عدّة احتمالات، يمكن الجزم أنّ واقع ما بعد الجائحة لن يكون مطلقا كما قبلها.
فالمعطيات كلّها تؤكّد تخبّط المنظومة الرأسماليّة وعجزها المفضوح في مواجهة الوباء، وهذا ما سيؤدّي جنوحها لتصريف أزمتها على حساب شعبها أوّلا، بارتفاع نسب البطالة (قرابة 30 مليون معطّل في الولايات المتحدة) وثانيا بمزيد العربدة والاعتداء على بقيّة الشعوب، وبترفيع نسق الاستنزاف والاستغلال لمقدّرات الدّول التّابعة.
في رمزيّة 16 مـاي:
وقع إعلان يوم 16 ماي يوما عالميا للنضال ضدّ البطالة والتهميش لما يمثّله هذا اليوم من رمزيّة. فهو يتناسب مع ذكرى اغتيال شهيد الجمعية الوطنية لحملة الشهادات المعطلين بالمغرب المناضل البطل مصطفى الحمزاوي.
تم اعتقال الشهيد مصطفى حمزاوي يوم السبت 15 ماي 1993 في أحد شوارع مدينة “خنيفرة” من طرف مفتش شرطة (يدعى “آيت اوكرين محمد”) والذي كان في حالة سُكْر، قام باستفزاز الشهيد بالسبّ والشّتم، بسبب نشاطه مع المعطّلين ودفاعه عن الحقّ في الشغل، ليتمّ بعد ذلك نقله بمساعدة رجل أمن بالبذلة الرسمية على متن سيارة من نوع “FIAT-REGATA” مرقمة “LI 370572″ بالشارع الموجود قرب مصلحة البريد وبحضور شهود هما “العروسي محمد” الذي كان برفقة الشهيد وكذلك المسمّى “القبيض وامحزون”. وقد نقل الشهيد إلى مخفر الشرطة تحت وابل من الضّرب والتنكيل، بعد أن امتنع عن مرافقة مفتّش الشرطة لغياب السّند القانوني للاعتقال، وحالته (السكر). ويتداول أبناء الجهة شهادات تؤكّد أن الشهيد قد توفّي في نفس الليلة بعد اعتقاله (شهادة لأحد مرافقي الشهيد).
فالرّفيق مصطفي الحمزاوي هو أوّل شهيد قدّمته الجمعية الوطنية لحملة الشهادات المعطلين بالمغرب، اغتِيل يوم 16 ماي 1993 وأُخفيت جثّته منذ ذلك الحين حيث لا يزال قبره مجهولا إلى اليوم. وقد اعْتُبِر أوّل شهيد للنضال ضدّ البطالة وهو ما دفع عدد من المنظّمات المناهضة للبطالة في عدد من الدول المغاربية والأوروبية اعتبار يوم 16 ماي من كلّ سنة يوما عالميا للنضال ضدّ البطالة والتّهميش، تخليدا لذكراه.
وإلى اليوم، مازال رفاق الشهيد وعائلته والرّأي العام المغربي، يطالبون بالكشف عن مكان دفن الشهيد، فيما لا يزال الجناة “ينعمون” بالحرية، بتواطئ النظام المخزني الذي عرف معه الشعب المغربي عقودا من الهوان والقمع والاستبداد، واشتهر بالإخفاء القسري وبالتصفيات السياسيّة، وفي سجلّ الحركة التقدمية والديمقراطيّة، مئات، إن لم نقل آلاف، من المختطفين والمعتقلين السياسيّين، بعضهم مجهول المصير إلى الآن، والبعض الآخر يقبع في سجون الاستبداد.
وفي ذكرى اغتيال الشهيد الحمزاوي كلّ سنة تتحوّل مدينة “خنيفرة” إلى قِبْلة لكل مناضلي الجمعية الوطنية لحملة الشهادات المعطلين بالمغرب وكل الثوريّين والديمقراطييّن، سياسييّن وحقوقيّين ونقابيين وطلبة جامعات، وحتّى من خارج المغرب (أعضاء التنسيقية النّقابية المتوسطية..)، وتُعقَد مهرجانات خطابية وترفع فيها شعارات تطالب بالحق في الشغل والكشف عن مصير جثّة الشهيد ومحاسبة القتلة وتُنظّم مسيرات، عادة ما تُواجَه بالقمع والإيقافات والاعتقالات.
ضرورة تطوير التنسيق الإقليمي والأممي للتصدّي للبطالة:
لقد مثّل مطلب التشغيل في تونس المطلب الجامع الذي وحّد كل شعارات الحركة الاجتماعية والنقابية وحتّى السياسيّة، ومثّل المعطّلون والمهمّشون الخزّان الهائل، إلى جانب الطبقة العاملة، الذي قسم ظهر الدكتاتورية ذات 17 ديسمبر-14 جانفي 2011، بل وحوّل ملفّ البطالة إلى قضيّة وطنية وقضية رأي عام بأن ربطت ظاهرة البطالة بالخيارات الاقتصادية اللاشعبية واللاوطنية المُتّبعة، وبالفساد السياسي والمالي والإداري لنظام بن علي، وبالانغلاق والاستبداد السياسيّيْن (غياب الحريات والديمقراطية)، وهو ما وفٍّ ذلك الخليط العجيب، الذي هو الوعي الثوري والتّوق إلى التغيير… فكان ما كان.
اليوم، وأكثر من ذي قبل، ما تزال نسبة البطالة مرتفعة، وأصبحت فرص الاستثمار والتوظيف في القطاع العمومي أو الخاص أو في قطاعات أخرى مشغّلة تتعقّد شيئا فشيئا، ومازال الشباب يُقدِم على “الحرقة” (الهجرة الغير نظاميّة) وعلى الانتحار حرقا وعلى تعاطي البغاء والجريمة والمخدّرات.. مازالت أسباب الاحتجاج والانتفاض قائمة، كما هي شروط الثورة قائمة. بل إنّ الفقر والتهميش والعمالة والفساد والغنائميّة ازداد منسوبها وازدادت الصورة قبحا. ولم يفرح التونسيّون والتونسيّات بثورتهم ولم ينعموا من “خير ثمارها”، بل إنّ السياسات الفاشلة المتّبعة، هي التي تدفع نحو مزيد من الغموض والتشويش، حتى ليتساءل المرء إن كنّا فعلا نعيش في مناخات ما بعد الثورة، أم أنّها كانت محطّة صغيرة من عمر شعبنا ليستأنف الاستغلال والظّلم والحيف مسيرته معنا، أو لأنّ الأمس واليوم اختلطا وتشابكا ليرسما لوحة قاتمة، هي الثورة المضادّة، وإن تزّينت بلبوسات زاهية.
ورغم حجم التّآمر على الثورة وعلى أهدافها وتبخّر تلك الأحلام الجميلة بالحرية وبالكرامة وبالشغل والعدالة الاجتماعيّة، إلاّ أنّ كثيرون مازالوا يرفعون لواء النّضال ضدّ راسِمِي سياسات التبعيّة والفساد والاستغلال، بل هم مدعوّون لتطوير أشكال وأدوات النضال أدوات التعبئة لقيادة “أصحاب الحقّ” (المعطلين والمهمّشين) عبر فهمٍ ثوري لقضيّتهم ولموقعهم من عملية الإنتاج، في أفق خلق منظومة أكثر عدل، تخلق الثروة وتكرّس المساواة وتكافئ الفرص، بين الجهات والفئات، وتفتح طريق الإبداع والابتكار والتطوّر.
إنّ التحركات المعزولة والضيقة والفئويّة، كالقائمة على اختصاصٍ أو على قطاعٍ أو حتّى مجموعةٍ أو غيره، قد تحقّق تحت ضغط ما بعض الفتات من المكاسب، فإنّها تبقى عاجزة وقاصرة عن توفير الشّغل اللاّئق لكلّ المعطّلين. فالمعركة معركة طول نفَسٍ وجهود موحّدة وبرنامج بديلٍ.
إنّ القضاء على البطالة، ومن زاوية المسؤوليّة التاريخيّة، يستوجب خلق إطار موحّد لهيئات الدّفاع عن المعطّلين، يتبنّى برنامجا ملموسا (بدائل، مقترحات، أشكال نضالية…) ويرصّ صفوف المعطّلين لتوعيتهم ولتأطيرهم ولدفعهم في أتون النّضال ضدّ معطِّلِيهم وفي المعارك والقضايا المشتركة إلى جانب كلّ القوى التي ترفع موضوعيّا نفس المطالب والأهداف (محليا وإقليميّا وأمميّا).. وهذا يستوجب عملا دؤوبا ضمن هذا الخزّان الثوري الهائل.