فتحي كليب / عضو المكتب السياسي
للجبهـة الديمقراطيــة لتحرير فلسطين
كثيرة هي المزاعم الدينية والاساطير التاريخية الصهيونية التي تحدثت عن فلسطين وعن حق تاريخي مزعوم لليهود فيها، بدءا من الحاخام زئيفي هيرش في نهاية القرن الثامن عشر وصولا الى الفيلسوف الالماني موسز هس والطبيب الروسي ليو بنسكر (منتصف القرن التاسع عشر)، الى عشرات الفلاسفة والسياسيين، اليهود وغير اليهود، الذين ظلت طروحاتهم بشأن فلسطين عبارة عن افكار عامة لم تنزل الى مستوى الترجمة الفعلية على ارض الواقع، حتى سطع نجم الاب الروحي للحركة الصهيونية ثيودور هرتسل، الذي لم يقدم اضافات كثيرة عن ما سبقه، بل ان الشيء الهام الذي قدمه هو انه وضع كل ما كتب خلال مئتي عام في قالب تنظيمي، مكنه من تحويل الاساطير والمزاعم من مجرد افكار الى وقائع من خلال اطر تنظيمية عملت على تحويل “الاحلام الى حقائق”.
ورغم ان اسبابا كثيرة ساهمت في تحويل طروحات المفكرين الاوائل للحركة الصهيونية من مجرد آراء الى واقع ملموس له اهدافه الواضحة وادواته الفعلية، الا ان العامل الذاتي كان له الدور الهام في نجاح المشروع الصهيوني.. وإن كنا لا نغفل حقيقة العلاقة بين الدول الامبريالية الاستعمارية والحركة الصهيونية، والتحالفات الناجحة التي عقدها زعماء هذه الحركة مع عدد من الامبراطوريات الآفلة والصاعدة، اضافة الى ان ردة الفعل العربية والفلسطينية لم تكن بحجم الخطر المحدق بفلسطين، ارضا وشعبا.. الا ان جدية زعماء الحركة الصهيونية والاخلاص لهدفهم المشترك بالوصول الى فلسطين شكل سببا كافيا لوضع الخلافات والتباينات جانبا لصالح هدف مركزي يجب على الجميع التضحية من اجل تحقيقه..
تلاقت العنصرية الصهيونية واليهودية مع الاطماع الاقتصادية والاستعمارية للدول الغربية، خاصة بريطانيا وفرنسا، اللتين وجدتا في تلك الافكار فرصة مناسبة لخلق كيان جديد في المنطقة يحفظ لهما مصالحهما الاستعمارية، السياسية والاقتصادية. وهذا ما يفسر سبب رفض الكثير من المقترحات التي قدمت لإقامة وطن لليهود دول اخرى غير فلسطين، بل ان بعض القادة الاوروبيين كان اشد حماسة لإقامة “وطن قومي” لليهود في فلسطين من اليهود انفسهم.. وهنا يمكن القول ان وعد بلفور، الذي كان من الاشارات الهامة لبدء تطبيق المشروع الصهيوني، مثل قاسما مشتركا بين الدول الاستعمارية والحركة الصهيونية، لا بل ابعد من ذلك كان نتيجة علاقة غير نظيفة بين الحركة الصهيونية والاطماع الغربية في المنطقة..
ركزت الحركة الصهيونية، بالتعاون مع الانتداب البريطاني على معادلة الارض والبشر في آن، اي جلب اليهود من بلادهم واستيطانهم في فلسطين بشكل تدريجي. ومع كل يوم يمر، كان عدد المستوطنين يزداد في فلسطين ومساحة الاراضي المملوكة للفلسطينيين تقل. لذلك فان الحركة الصهيونية تدين بنجاحها الى الانتداب البريطاني، الذي سهل قدوم المستوطنين اليهود، ومدهم بكل اسباب النجاح والتفوق، الى جانب محاربة الفلسطينيين وقتلهم ونفيهم واعتقالهم، في ظل تواطؤ العديد من الدول العربية الى درجة الشراكة، والامثلة على ذلك تعد ولا تحصى منها الموقف العربي من ثورة عام 1936 والمواقف ايضا من عديد المبادرات والافكار التي كان يطلقها الانتداب ثم رفضها الفلسطينيون، ما يلبثوا ان يوافقوا عليها بضغط عربي، في ظل عجز القيادات الوطنية الفلسطينية، ليس فقط عن تحديد مهماتها بوضوح، بعد ان انشغلت بانقسامات وخلافات داخلية وصلت الى درجة الاغتيالات لقيادات سياسية ونقابية ابرزت وعيا متقدما عن القيادة التقليدية الإقطاعية السياسية، بل عجزها عن تحديد الخطر الحقيقي: اهو الانتداب البريطاني ام الحركة الصهيونية ام الاثنين معا.. اهو الولايات المتحدة ام اسرائيل م الاثنين معا!
لسنا هنا في وارد النقاش التفصيلي للدور الذي لعبته الدول العربية ولا مواقف الحركة الوطنية الفلسطينية، فقط نود الاشارة الى ان الحركة الصهيونية حققت اهدافها من خلال استراتيجية واضحة اقرها المؤتمر الصهيوني الاول الذي انعقد في سويسرا (1897) وتتلخص في اعتبار فلسطين هي الوطن القومي لليهود (الهدف)، تسريع هجرة اليهود الى صهيون(الآلية)، تنظيم اليهود وربطهم بشكل رسمي بالحركة الصهيونية كونها “حركة التحرر الوطني للشعب اليهودي” (المرجعية التمثيلية والشرعية). وقد نجحت الحركة الصهيونية في تحقيق اهم هدفين لها خلال فترة وجيزة وهما: تهجير ثلاثة ارباع الشعب الفلسطيني خارج ارضه واعلان قيام دولة “اسرائيل”.
في تلك الفترة امتلكت الحركة الصهيونية، كما يقول امين عام الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين نايف حواتمة في تأريخه لتلك المرحلة، كل ما تحتاجه لينتصر مشروعها الاستيطاني: البرامج والخطط العلمية مرحلة بعد مرحلة على الأرض وفي الميدان، قوة القرار، قوة التنظيم، قوة التسلح والتدريب، علاقات دولية وصفقات سرية مع بعض العواصم العربية. فيما افتقر الشعب الفلسطيني إلى القيادة الفاعلة، والتنظيم والتدريب والتسليح، وبفعل سوء الأداء القيادي لحركته الوطنية، بقيت قضيته تحت وصاية إقطاعية عربية راهنت على وعود “الصديقة” بريطانيا، كما هي الولايات المتحدة اليوم صديقة لبعض العرب والفلسطينيين، رغم انها شريكة للاحتلال الاسرائيلي وتمده بكل اسباب بقاءه.
وبعيدا عما ارتكبته اسرائيل من جرائم، منذ نشأتها وحتى اليوم، ومحاولة العبث بالتاريخ لجهة انكار وجود الشعب الفلسطيني، على ارضية النظرية العنصرية “ارض بلا شعب لشعب بلا ارض”، اضافة الى السعي لتغيير معالم الارض والحجر والشجر والمباني وكل ما يرمز الى فلسطين وعروبتها، وتحويلها الى معالم ومسميات يهودية، فقد احاطت اسرائيل كل ما تعلق بحرب 1948 بسرية تامة، وتمنع، حتى اليوم نشر اي معلومة دون مرورها على رقيب الجيش الاسرائيلي، وذلك بهدف ضمان وجود رواية واحدة متسقة في تفاصيلها واهدافها..
واذا ما عدنا الى المراحل الاولى للنكبة وتفحصنا جيدا الوثائق التاريخية المتعلقة بالصراع العربي والفلسطيني – الاسرائيلي، فان الملاحظة التي تبعث على قلق دائم هي في غياب المعطيات التفصيلية العربية والفلسطينية عن مرحلة ما قبل وبعد النكبة. بينما في الجانب المقابل، يبدو السجل الاسرائيلي عن تلك المرحلة حافلا بآلاف الوثائق السرية من خلال ارشيف اجهزة الاستخبارات الاسرائيلية والبريطانية والاميركية، وتلك التي جرى مصادرتها من دور العلم والتراث في فلسطين عام 1948. وفي غياب المعطيات من قبل احد اطراف الحرب (الجانب العربي)، يصبح الطراف الثاني( اسرائيل) اكثر قدرة وحرية في تقديم روايته، حتى لو كانت كاذبة ومزيفة ولا يقبلها الواقع، لكنها رواية تنتقل من جيل الى جيل. وعلى سبيل المثال؛ تسري رواية بين اللاجئين الفلسطينيين مفادها “ان الدول العربية طلبت من اللاجئين مغادرة فلسطين الى ان يتم تحريرها”. ليتبين ان هذه الرواية بثت من قبل اليهود ليتم البناء عليها سياسيا في وقت لاحق، بـ “أن العرب طلبوا من اللاجئين المغادرة، وطالما ان العرب خسروا معركتهم فليتحملوا مسؤولية وعودهم للاجئين بالخروج ويوطّنوهم.. طالما ان اسرائيل غير مسؤولة قانونا عن تهجيرهم”. وهذه رواية رغم دحضها من اكثر من مؤرخ اسرائيلي وغربي، الا انها رواية ما زالت حاضرة وبقوة، وتصر اسرائيل على انها الرواية الحقيقية حيث لا يوجد رواية اخرى تدحضها وتكذبها….
وتستند فكرة النكبة على معادلة الارض والشعب معا، أي السيطرة على الارض والقضاء على الشعب. ونظرية السيطرة على الارض في الفكر الصهيوني لا معنى حقيقيا لها طالما هناك شعب لا زال يطالب بأرضه التي سلبت منه بقوة القهر والارهاب. لذلك ترفض اسرائيل الاعتراف بمسؤوليتها السياسية والقانونية عن وجود مشكلة اللاجئين، وتصر على انها كانت في حرب دفاع عن النفس، وان الدول العربية هي التي تتحمل مسؤولية تهجير الفلسطينيين.. غير ان رواية اسرائيل للنكبة يشوبها الغموض في اكثر من تفصيل، إذ ليس هناك مثلا من وثيقة تؤكد ان مسؤولا او زعيما عربيا، سياسيا او عسكريا، طلب من اللاجئين المغادرة، كما ليس هناك من نشرة او كتاب رسمي يتحدث عن عدد القرى العربية التي كانت موجودة قبل عام 1948 ضمن نطاق الأراضي المقامة عليها دولة اسرائيل والتي تم تدميرها بشكل كامل، بحيث باتت هذه المسألة واحدة من أهم الاسرار في الحياة الاسرائيلية, وهو أمر مقصود بهدف جعل الرواية الرسمية هي المقبولة بنظر المجتمع الاسرائيلي اولا والمجتمعين العربي والدولي ثانيا، خاصة في ظل انعدام تام لرواية رسمية عربية..
واذا كانت إسرائيل عاجزة على اثبات روايتها المزورة بأن فرار اللاجئين من ديارهم جاء نتيجة الحرب التي شنتها الدول العربية على اسرائيل، فان الحقيقة التاريخية التي اكدتها الابحاث التاريخية لأكثر من باحث ومفكر، هي عكس ذلك تماما، إذ ان الدول العربية هبت لمساعدة الشعب الفلسطيني بعد سلسلة المجازر التي ارتكبت بحقه وليس قبل ذلك. واذا ما قمنا بمراجعة الاحداث التي وقعت بين عام 1947 وعام 1949 يتبين لنا بان فلسطين شهدت حربين وليس حربا واحدة: الحرب الاولى هي الحرب الفلسطينية – الاسرائيلية، والحرب الثانية هي الحرب العربية – الاسرائيلية. وما يجري من قبل الاسرائيليين هو المزج المقصود والمتعمد بين الحربين من خلال التركيز على الحرب الثانية وتجاهل الحرب الاولى التي كانت السبب المباشر في تهجير غالبية اللاجئين، وهذه نقطة هامة يحاول الاسرائيليون تجاهلها بشكل دائم.
ان الجيوش العربية دخلت فلسطين بتاريخ 15 ايار 1948 بعد اعلان “قيام دولة اسرائيل”، بهدف المحافظة على حقوق السكان العرب من الارهاب الصهيوني. وفي اليوم نفسه، وجهت جامعة الدول العربية مذكرة الى الامم المتحدة، توضح فيها اسباب تدخلها في فلسطين، وتؤكد ان سكان فلسطين احق بحكمها وبتقرير مصيرهم. وان اعمال الاخلال بالأمن والارهاب والاستعمار الصهيوني، قد ادت الى نزوح ربع مليون ونيف من العرب الفلسطينيين الى البلدان المجاورة. في هذه الاثناء، كانت الحرب الفلسطينية – الاسرائيلية قد بدأت والاعمال الارهابية الصهيونية كانت تنتقل بين مدينة وقرية فلسطينية واخرى. لذلك، فان طرد اللاجئين حصل قبل الحرب الاسرائيلية-العربية، وان تناوله يجب ان يكون في اطار الحرب الاولى وليس الثانية، حتى اذا كانت نتائج الحرب الثانية قد سرعت من حركة النزوح وزادت من حجمها.
في نقاش “نكبة” اليوم وربطها بالأمس، فالتاريخ يكرر ذاته، وان بأشخاص ورسومات مختلفة. فالقضية الفلسطينية تتعرض لنكبة كبرى ليس مبالغة القول انها توازي خطر النكبة الاولى، فيما القيادات السياسية والفصائل الفلسطينية ما زالت تغرق في انقسام سياسي وفصل سياسي وجغرافي ومؤسساتي بين الضفة وغزة، والمشروع الامريكي الاسرائيلي يجري العمل على تطبيقه بشكل تدريجي، في تناقض واضح بين ما تتعرض له القضية الفلسطينية من مخاطر وبين اصرار اطراف الانقسام على الايغال في انقسامهم، وكل طرف يعتمد على تحالفات اقليمية ودولية لا تختلف كثيرا عن تحالفات ما قبل النكبة الفلسطينية الكبرى. والنتيجة داخليا هي في زيادة اليأس بين صفوف الشعب، وتمكين العدو من تحقيق مشروعه السياسي، بما يعيد الشعب الفلسطيني وقضيته الى ما قبل العام 1974، عندما ضاع الدم الفلسطيني بين اسرائيل والغرب والقبائل العربية التي بسببها خرجت فلسطين من على مسرح العلاقات الدولية..
اذا كنا نلتمس “العذر” للقيادات السياسية الفلسطينية في مرحلة ما قبل النكبة لجهة ضعف وعيها السياسي وقصور قدراتها في فهم ما يجري فوق ارض فلسطين وعلى المستويين الاقليمي والدولي، فان الحالة السياسية الراهنة، وبالأخص طرفي سلطتها وانقسامها، لا ينقصهما من المعرفة والخبرة والدراية السياسية والعلم الوافي الذي يمكنهم من تحديد معكسر الاصدقاء والحلفاء وتمييزه عن معسكر الاعداء والمتحالفين معه.. ولا هم عاجزون عن تحديد الهدف الذي يمكن ان يوحّد كل قوى الشعب خلفه! لذلك فإن قادة اليوم يتحمّلون مسؤولية مضاعفة خاصة لجهة وضوح المشروع العدواني الأمريكي الاسرائيلي ووضوح الأطراف التي تدعمه وتقف خلفة وايضا وضوح حقيقة من يرفضه ويعمل على اسقاطه ومن يستاوق معه هنا وهناك..
ان صفقة ترامب – نتنياهو هي امتداد طبيعي لمرحلة ما قبل النكبة. ومن يدقق في النصوص والمفردات التي حملها وعد بلفور واجرى مقارنة بسيطة مع مفردات ومصطلحات “قانون القومية لليهود في إسرائيل” الذي سنه الكنيست الاسرائيلي في تموز 2018، سيجد ان هاجسا كان وما زال يؤرق زعماء الحركة الصهيونية حول كيفية بقاء “الشعب اليهودي” وتمتين وجوده في فلسطين. لهذا نجد ان مصطلح “القومية” يشكل قاسما مشتركا بين وعد بلفور وقانون القومية وحتى مع مصطلحات الرئيس الامريكي في احاديثه عن صفقته التي تدور جميعها حول فكرة “القومية والشعب اليهودي” باعتبار هاتين الفكرتين امرا طبيعيا وحقوقا مكتسبة يجب على العالم الاعتراف بهما..
لهذا ليس صدفة ان تكون “رؤية ترامب” نسخة منقحة من “وعد بلفور” مطروحة للتطبيق المباشر، وليس هناك اي امكانية لتعديلها بما ينسجم مع الحد الادنى من الحقوق الفلسطينية، وهي نتاج طبيعي لرهانات خاطئة اعتقدت منذ البداية ان بالإمكان الوصول الى حقوقنا عبر “الدبلوماسية الناعمة” التي شجعت عليها الولايات المتحدة وعملت على ايجاد روافع، عربية وفلسطينية مهدت الطريق لما وصلنا اليه الآن.. لذلك، فلا مكان للاجتهاد ولا مكان للمواقف الرمادية. هي صفقة تستهدف علنا وصراحة وبلا مواربة تصفية الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، واذا كانت بعض المشاريع السياسية السابقة قد قدمت نفسها من مداخل انسانية واقتصادية باعتبارها حلا للشعب الفلسطيني، فان “صفقة ترامب – نتنياهو” تعرض نفسها كما هي وباعتبارها صفقة عدوانية في جميع تفاصيلها، وتقدّم نفسها الى الفلسطينيّين والعالم من خلال استنادها إلى أساطير ومزاعم الحركة الصهيونية التي تنفي وجود الشعب الفلسطيني.. وبالتالي فلا إمكانية واقعية، كما يتوهم البعض، للدخول في شرَكِها في محاولة كاذبة لتطويرها أو تعديلها..
هل نسي العرب والفلسطينيون ما قاله رئيس الوزراء الاسرائيلي الأسبق اسحق شامير عندما انطلقت مفاوضات مدريد حين قال: سأجعل الفلسطينيون يتصببون عرقا”؟ اليوم تؤكد تجربة اكثر من نصف قرن على رهان الخيار الواحد، ان هذا الرهان لم يجلب للشعب الفلسطيني سوى مآس وطنية. ورغم ذلك، فهناك اصرار من قبل البعض على ان يعيش في وهم مزدوج: امكانية انتزاع ولو جزء بسيط من حقوقنا استنادا لصيغة تفاوضية مختلة، ومن جهة اخرى العيش على وهم بناء مؤسسات الدولة بالاستناد الى الدعم الخارجي، في ظل الوجود المادي للاحتلال..
ان التسليم بالواقع الراهن من شأنه مفاقمة الخلل في موازين القوى، وان الخيار الاوحد امام الفلسطينيين لتعديل هذا الميزان هو باستراتيجيات نضالية جديدة تتجاوز الصيغ المعتمدة رسميا، والتي لم تنجح لا في تغيير الاوضاع الميدانية ولا في المراكمة على الحركة الشعبية. واذا كانت اسرائيل تستفيد من عامل الوقت لتطبيق مشروعها بشكل تدريجي (كما في مرحلة ما قبل النكبة)، مستفيدة بذلك من وجود بعض قنوات الحوار هنا وهناك (كما كان يفعل الانتداب البريطاني باصطناع حوارات وهمية، فيما عمليات بناء الدولة كانت تسير على قدم وساق)، فان المسؤولية الوطنية اليوم تقتضي ضرورة اقفال كل ابواب “الحوار المزيف” ومواجهة المشروع الامريكي الاسرائيلي حيث يطبق في الميدان وعبر تحويل مراكز المستوطنات والحواجز والثكنات العسكرية الى نقاط احتكاك واشتباك دائم.
رغم اننا مجمعين كفلسطينيين على رفض الصفقة، الا اننا غير متفقين على وسيلة اسقاط هذا المشروع، مع التأكيد بأنه لا يمكن التوفيق بين رفض “صفقة ترامب – نتنياهو” واستمرار التعاون الأمني والتبعية الاقتصادية لإسرائيل.. وأيّ كلام على رفض الصفقة يبقى منقوصا ما لم يقترن بإجراءات مباشرة تتصادم مع “رؤية ترامب” في الميدان عبر استعادة عناصر القوة الفلسطينية وزجها في ميدان الفعل المباشر، وغير ذلك فنحن امام حل نهائي يفرض بالأمر الواقع وتطبقه الادارة الامريكية واسرائيل بشكل تدريجي لتفرضه علينا بالتعاون مع أطراف عربية تتواطأ سرّا وعلنا مع الخطوات الأميركية.
إن هذا ما يملي مسؤوليات ومهمات مباشرة على القوى الشعبية العربية لإعادة الاعتبار لذاتها ولدورها ليس فقط دفاعا عن القضية الفلسطينية، بل وعن نفسها، لأن المشروع الامريكي الاسرائيلي، وإن كان يقدّم نفسه كحلٍّ مزعوم للصراع الفلسطيني الاسرائيلي، إلّا أنه يستهدف المنطقة العربية كلها، في اطار مشروع امريكي يهدف الى اخضاع الشعوب العربية والتحكم بخيراتها وثرواتها، بل بطريقة حياتها المستقبلية.
فتحي كليب – 15 ايار 2020