علي البعزاوي
لم تمض أشهر على انتصاب البرلمان في باردو ودخول قيس سعيد قصر قرطاج والمصادقة الاضطرارية على حكومة إلياس الفخفاخ خشية المرور إلى انتخابات استثنائية وتمرير قانون المالية والانطلاق في العمل الاعتيادي، حتى انطلقت التصريحات والتصريحات المضادّة والتجاذبات والتدافع والاتهامات والاتّهامات المضادة بين مكونات المنظومة، وبات “غسيل” الحكم على قارعة الطريق على مرأى ومسمع من الشعب التونسي الذي اعتقد أن هذه الصراعات انتهت بالإعلان عن نتائج الانتخابات.
الصّراع طيلة هذه الفترة كان هو الغالب وهو السّمة الأساسية للمرحلة، بينما شكّل الاستقرار والتّعايش استثناء.
معركة التّموقع هي أمّ المعارك بين مكوّنات الفريق الحاكم
مرور قيس سعيد إلى قصر قرطاج لم تستسِغْه عديد الأطراف وخاصة حركة النهضة، رغم دعوتها إلى التصويت له تجنّبا لمرور عدوّها في تلك الفترة نبيل القروي وانتصاب راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة رئيسا للبرلمان, سلطة القرار الأولى حسب الدستور، لم يكن مقبولا من عديد الأطراف داخل الحكم وخارجه وكذلك الأمر بالنسبة إلى رئيس الحكومة الذي مرّ بين ثنايا صراعاتٍ وحساباتٍ الأطراف المتنافسة وبدعمٍ خارجي.
هذا الواقع سيظلّ محدّدا بدرجة معيّنة في مواقف وسلوك مختلف الأطراف وعلاقاتها ببعضها البعض.
معركة تشكيل الحكومة والتمكّن من وزارات السيادة ومساعي إضعاف هذا الطرف للطرف الآخر وتمثيل هذا المكوّن من عدمه شكّلت شوطا إضافيًّا في معركة الحكم, عمّقت الجراح وجعلت الانقسام والصّراع هما الغالبين، وهو ما سيكون محدِّدًا أيضا في سلوك مختلف الأطراف تجاه بعضها البعض وتفاعلها مع مختلف الأوضاع .
وبحلول الجائحة وتداعياتها السّريعة على اقتصادٍ تابعٍ وهشٍّ، وبدل التعاون والتآزر لإيجاد الحلول واتّخاذ الإجراءات النّاجعة اندلعت من جديد معركة الصّلاحيات بين الرئاسات الثلاثة حيث سعى كلّ طرف إلى تصدّر المشهد والظهور بمظهر القائد الأول والمنقذ الأول والشخصية الأبرز والمُتحكِّمة في كل شيء (معركة الإعلان عن حالة الطوارئ – ومعركة التفويض لإصدار المراسيم – واستقبال الشخصيات والتمثيليات الدبلوماسية الخارجيّة – معركة توزيع المساعدات العينيّة ومشاهد حمل الكراتين والزيارات الليلية ).
هذه المعارك الدونكيشوتيّة التي لا تليق بحكام الصف الأوّل عمّقت الجراح وثبتت الخلافات التي أضحت هي الأصل رغم تعالي أصوات “الوحدة الوطنية” لمجابهة الأزمة. ولا نعتقد أنّ محاولات رأْب الصّدع وتنظيم موائد الإفطار ستُثْمر، لأنّ الهدف الرئيسي لكلّ مكوّن ليس معالجة الأزمة بل الاستفادة منها على حساب الأطراف الأخرى ومحاولة توظيفها لصالح المستقبل السّياسي لكل طرف وخدمة أجنداته الداخلية والخارجية.
معارك غيّبت البرامج
إنّ الغائب الأبرز في معارك المنظومة هو المشروع والبرنامج. فالرّئاسات الثلاثة ظلّت ملتزمة بميزانية التّفقير والتّجويع وبإملاءات صندوق النقد الدولي التي يغلُبُ عليها التقشّف والتفريط في المؤسّسات العامة لصالح الخواص المحلّيين والأجانب ودهْوَرة الخدمات الأساسية والقدرة الشّرائية لعموم الشغيلة صانعة الثروات, وبالسياسات والإجراءات المتّخذة إزاء تداعيات الجائحة والتي كانت مُنحازة على المكشوف لأصحاب المؤسسات الكبرى وكبار الرأسماليين سواء من خلال خطوط التمويل ومساهمة الدولة في خلاص أجور العمّال وتأخير خلاص الجباية وحتّى الديون الديوانية أو من خلال الفتات الذي رمت به الحكومة للعمال وللفئات الهشة وذوي الدخل المحدود من جهة أخرى، بل لعلّ العديد من فاقدي السند من عمال عرضيين وحرفيين وفلاحين فقراء وعاملات فلاحيات ومعطلين عن العمل لم يشملهم فتات الحكومة دون ان يحرك ذلك ساكنا من طرف مكونات المنظومة وخاصة الرئاسة التي كثيرا ما “احتضنت” المعطلين وعبّرت لهم عن التأييد والدعم في مساعيهم من أجل الحق في الشغل. مما يؤكد ان هذه الصراعات لا علاقة لها بالبرامج والسياسات والخيارات، وهي مجرد تنازع مصالح ضيقة وبحث عن التحكّم والسيطرة على دواليب الحكم أو على الأقلّ تعبيد الطّريق نحو ذلك.
وحتى الإجراءات البديلة التي اطلقتها المعارضة الديمقراطية ومن ضمنها تعبئة الموارد عبر تعليق خلاص الديون ومنع المؤسسات الاجنبية العاملة في الداخل من تصدير أرباحها للخارج اضافة إلى اقرار ضريبة كورونا على كبار الأثرياء والمساحات الكبرى والبنوك وغيرها, إلى جانب المطالبة بإيصال المساعدات لمستحقّيها الفعليين…لم تلق على وجاهتها ادنى تفاعل من الثلاثي المتّحد ضد الشعب في تجسيم ملموس لمفهومه “للوحدة الوطنية” وضدّ السيادة الوطنية والمتناحر حول المصالح الضّيقة.
الفخفاخ يكشف المستور والمنظومة تكشّر عن أنيابها
إن التوصيات الأخيرة التي أعلن عنها رئيس الحكومة تمهيدا لإعداد الميزانية الجديدة وما تضمّنته من غلق لأبواب الرّزق واعتداء على الحقوق المكتسبة لعموم الأجراء وضغط على كتلة الأجور وسدّ الباب أمام التّرقيات المشروعة وغيرها، كشفت عن حقيقة المشروع النيوليبرالي المتوحّش و”الإجراءات الموجعة” المنتظرة من زيادات في الأسعار وتخفيض في قيمة الدينار ودهورة للخدمات الأساسية، أي في كلمة تحميل الأزمة، التي هي أزمة اختيارات تتحمّل مسؤوليتها المنظومة الحاكمة دون سواها، لغير المتسبّبين فيها من طبقات فقيرة ومتوسطة ومهمّشين دون مساسٍ بمصالح كبار الملاكين والأثرياء الذين ما فتئوا يراكمون الأرباح زمن الأزمة.
ما عبّر عنه رئيس الحكومة من توصيات هو تعبيرة مكثّفة عن حقيقة مشروع منظومة الحكم الذي لم تستطعْ تمريره كاملا في السّابق وتسعى اليوم في استغلالٍ لا أخلاقي لأزمة الجائحة لفرضه على الشعب. وهو بمثابة إعلان حرب وعملية سلخ ستذهب ضحيتها الأغلبية الشعبية. والمنظومة ستجد نفسها موحّدة كما لم يحصل من قبلُ حول هذا المسار. لكنها ستُواجَه في المقابل بحركة احتجاجية موحّدة وعارمة وقع بدأت بروفاتها الأولى في عديد القطاعات والجهات.
البلاد في مفترق طرق، وتونس ما بعد إعلان الفخفاخ قد لا تكون مثلما قبله. فإمّا انتصار الشّعب والقوى والفعاليات المنحازة لصالح المشروع الوطني الديمقراطي الاجتماعي في حدوده الدنيا والمراكمة على طريق تغييرات عميقة تنهي حالة التبعية والفساد والاستغلال والتمايز الطبقي، وإمّا تمرير مشروع المنظومة المعادي للشعب وما سيترتّب عن ذلك من بيع للمؤسسات الحيويّة مثل الخطوط الجوية والصوناد والستاغ وغيرها وفتح الباب على مصراعيه أمام شوط جديد من السيطرة الخارجية على الفلاحة وقطاع الخدمات على اختلافها وعلى كل القطاعات بلا استثناءٍ وما سينجرّ عنه من تفقيرٍ وإذلالٍ وتمايز بين الطبقات والجهات.
فإلى النضال والتّعبئة على طريق المشروع الوطني.