عمار عمروسية
تواترت في الأيّام القليلة الماضية أنباء الحرائق في أكثر من مكان ببلادنا. فعربة التّخريب بالنّار تتنقل من مصنع إلى آخر ومن فضاء قديم إلى مجال جديد تحت جنح الظلام في أكثر الحالات أو أثناء أوقات “ميّتة” كمايقال، تقلّ فيها الحركة (قبيل موعد الإفطار، في القيلولة…)
فالمسألة وفق هذا الانتقال السرّيع والتّواتر الحاصل أخرجتها من دائرة الصدفة والأحداث العرضيّة ووضعتها في سياق الظاهرة المنّظمة والمدروسة وفق حسابات اقتصاديّة وسياسيّة منسجمة أشدّ الانسجام مع مناخات وأجواء الأزمة العامّة والعميقة التي تُلقي بأثقالها على بلادنا.
فظاهرة هذه الأيّام ليست ابتداعا جديدا ولا هي أعمال معزولة وطائشة. ذلك أنّ البلد في العشرية الماضية عرف أكثر من مرّة مشاكل مريعة من أعمال التّخريب والعبث وفق منطق سياسة الأرض المحروقة.
والملفت للانتباه في كلّ مرّة هو تزامن تلك الأنشطة الإجرامية مع اشتداد أزمة منظومة الحكم وتعفّن الحياة السيّاسية وارتفاع منسوب الاحتقان الاجتماعيّ. فأعمال التّخريب وإنهاك المنشآت الاقتصادية وإتلاف المحاصيل الزراعية وتنظيم الفوضى في بعض مؤسسات الدّولة (سجون، مدارس معاهد، مبيتات جامعية الخ…) برزت إلى السّطح في الأشهر الأولى التي أعقبت سقوط حكم “بن علي” وعاودت إطلالتها القويّة تحت حكم “الترويكا” زمن انفلات عقال خطاب العنف والتّكفير وعلوّ سطوة الجماعات الإرهابية.
فلا أحد عاقل اليوم بإمكانه النّظر إلى جرائم هذه الأيام دون طرح أسئلة عن الجهات الواقفة وراءها وعن أهدافها من أنشطة التّّدمير والتّخريب الذي طال سوق الملابس القديمة بالحفصية ومعامل “السّميد” بـ”باب الخضراء” في العاصمة والورق بـ”النفيضة” والقطن بـ”منزل حياة في المنستير”.
هل كلّ هذا حصيلة صدف وأعطاب فنيّة؟
قطعا لا فسلسلة الجرائم وأيادي العبث امتدّت إلى غابة “رادس” وقطار نقل الفسفاط الذي لم يمض على اقتنائه سوى أشهر قليلة بمبلغ تجاوز الـ7مليارات دينار!!!
أكثر من ذلك فليلة البارحة عرفت محاولة حرق جديدة لقطار آخر بمحطّة “القصر قفصة” (وقع إيقاف شابان وحجز مواد حارقة).
يحدث كلّ هذا ودعاة الدّولة القويّة
منغمسون حتّى العنق في إدارة حروبهم على مواقع النّفوذ وتحصين مراكز لوبيات الفساد والإفساد العاملة في الخفاء والعلن لمزيد الإثراء الفاحش وتكديس الأموال الطائلة على حساب جحيم الحياة الذي يكتوي بناره العمّال والشغالين وجيوش المهمّشين.
يحدث كلّ هذا وجماعة الدّولة القويّة يلازمون الصّمت الذي خرقوه بخطابات الوعد والوعيد عندما تعلّق الأمر باحتمالات نهوض الحركة الإجتماعيّة والشعبيّة ضدّ سياسات التّوحش الرأسمالي.
فالدّولة القويّة العادلة بحقّ لايمكن أن تدع مافيات الاقتصاد والسياسة مطلقة الأيادي للاستثمار في نشر الفوضى وأعمال التّخريب وإشاعة الخوف بين الأهالي.
فالتّحركّ القضائي مطلوب لفتح تحقيق في مجمل الأحداث وعدم الاقتصار على حرق قطار نقل الفسفاط مثلما بلغ إلى مسامعنا.
والشفافيّة مطلوبة أيضا لإنارة الرأي العام عن هوية الأيادي الخفيّة سواء من تولّت التنفيذ أو أدوار التّخطيط والتّمويل.