حسين الذوادي
بيّن الوضع الحالي كيف فشلت الرأسمالية تماما في التعامل مع أزمة الفيروس التّاجي. وكشف سلوكها الّذي عرّض ومازال يعرّض حياة الملايين من النّاس للخطر. وفي مثل هذه الحالة، تكون نصف التدابير والعبث بالنّظام غير مجدية وهو ما برز في إشكاليّة إعادة توزيع السّلط في تونس عبر التّفويض وهي مسألة شكليّة لا طائل منها لأنّ المشكلة ليست في إعادة توزيع الأدوار بل في منوال العمل وما وقع إعداده مسبقا للمواجهة. فالتّدابير الصّارمة لا غير ستكون كافية لتفادي الكارثة الوشيكة، ليس في تونس فقط بل في كلّ العالم الّذي سقط في قلب الكارثة.
الفيروس التّاجي يعمّق أزمة الرّأسماليّة
إنّ حياة مئات الآلاف، وربّما الملايين من النّاس في خطر، حتى في البلدان الأكثر ثراء، حيث يوجد نظام رعاية صحيّة متقدّم ولكنّه ليس متوفّرا للجميع. وقد وصل الوضع بالفعل إلى نقطة الانهيار، لكن البلدان الفقيرة والمفقّرة تواجه كابوسا لا يمكن تخيّله، إذ يعيش النّاس في القارة الإفريقيّة وفي جزء مهمّ من آسيا – ناهيك عن المناطق الّتي تمزّقها الحروب – في أحياء فقيرة مزدحمة، ومخيّمات ولا يحصلون على مياه نظيفة، ولا يحصلون على رعاية طبية، وهنا يبدو الحديث عن تدابير مثل “التّباعد الاجتماعي” أو “الحجر الصّحّي” مزحة سخيفة.
والحقيقة هي أنّ النّظام الرّأسمالي يخيّب الإنسانيّة دائما وهو يتعرّض حاليّا إلى نتائج مدمّرة تبعا للنّظام الفاسد الّذي يقوم عليه. فقد سلّطت جائحة كورونا الضوء على الأزمة الاقتصادية الكامنة التي كانت تختمر منذ وقت طويل. وتمّ الآن تسريع هذه العمليّة إذ انهارت أسواق الأسهم في كلّ مكان، وبدأ الحديث يتصاعد عن إفلاس الشّركات، وفقد الملايين من العمال وظائفهم بالفعل. ففي الولايات المتّحدة وحدها يتوقّع الاقتصاديّون أن تصل البطالة إلى 20٪ وبالتّالي فإنّ ما يقع الآن ليس مجرّد أزمة اقتصادية دورية، وإنّما كساد عميق على غرار ما حدث في الثلاثينيّات.
وينبغي تذكّر أنّ كساد الثلاثينيّات أنتج ثورة وثورة مضادّة وحربا، واليوم نحن لسنا في حالة حرب بالمعنى التّقليدي. لكنّ جميع القادة السّياسييّن يقارنون ذلك بحالة حرب. وإذا كانت حالة من نوع الحرب، فإنّ الشّعوب ستتصرّف وفقا لذلك، ولهذا قلّلت الحكومات في البداية من خطورة الوباء إذ لم يكن الشّاغل الأساسيّ للطّبقة السّائدة هو الحفاظ على صحّة النّاس، ولكن كان شاغلها هو الحفاظ على استمرار الإنتاج بأيّ ثمن، ولم يكن هدفهم إنقاذ الأرواح بل إنقاذ أرباح البنوك والاحتكارات الكبرى، وهذا يفسّر إهمالهم الإجرامي وفشلهم في التّصرف على الفور لاتّخاذ التّدابير اللاّزمة لحماية الأرواح البشريّة، وقد كُشِفت الآن للجميع وحشيّة النّظام الرّأسمالي والهاوية بين الأغنياء والفقراء والمُسْتَغَلِّينَ والْمُسَتَغَلَّينَ، وهم الآن يندفعون للتعّويض عن الوقت الضائع بمجهود بائس ومتأخّر جدا.
إجراءات متأخّرة ومحدودة الجدوى تعكس الاستهانة بأرواح البشر
لقد تمّ السّماح للفيروس بالانتشار مثل حرائق الغابات، وكان لذلك تأثير كارثي في حياة الناس وفي الاقتصاد العالميّ. ومازالت الإجراءات حتّى الآن تحوّل حقوق الشّعوب إلى واجبات، وتلك هي المفارقة الدّائمة في هذه الأنظمة. إذ تمّ التّعاطي مع المسألة لاحقا بأسلوب أمني مع توجيه تهمة تفشّي المرض إلى المواطنين الّذين يواجهون معضلة رهيبة حول كيفيّة النّجاة من هذه الأزمة جسديّا واقتصاديّا. فمئات الآلاف يفقدون وظائفهم. وقريبا سيتمّ الحديث عن الملايين من غير القادرين على توفير مستلزمات الحياة وضروريّاتها من غذاء ودواء وسكن. ولكن تبعا لإسهام الفيروس في تغيير الواقع المادّي على الأرض بعد أن أصبح من الواضح تماما أنه لا أحد من الطّبقة الحاكمة يفعل ما هو ضروري حقّا، فقد تغيّر الوعي الشّعبيّ بسرعة اِنتقاله بين جميع دول العالم الّتي دخلت في حالة انغلاق على نفسها، بدرجة أو بأخرى وكانت المفارقة أنّه يُطلب من النّاس تجنّب الحركات غير الضّرورية، وتجنّب المناطق المزدحمة، والعزل الذاتي إذا كانوا معرّضين للخطر، ولكن في الوقت نفسه تُتّخذ إجراءات تزيد تأزيم الوضع وتحشيد المواطنين بسبب سوء تمثّل الكارثة وعدم وجود مخطّط جاهز لمثل هذا الوضع. وبرز هذا واضحا في تغيير سلوك التّبضّع والتّسوّق وتكتيل المواطنين للحصول على الإعانات بموازاة مظاهر الاستيلاء على السّميد وعدم محاسبة المحتكرين وأباطرة الأسواق الموازية. كما يُطلب من العمال في قطاعات مختلفة الذهاب إلى العمل دون توفّر متطلّبات حماية حقيقيّة، ممّا يزيد من خطر العدوى ومن اِحتمال انتقال المرض إلى المنازل وإصابة عائلات برمّتها، وكلّ ذلك من أجل الرّبح الرأسمالي.
الطّبقات الشّعبيّة تدفع ثمن اهتراء المنظومة الصّحّيّة
وهذا يغيّر بشكل جذري وعي السّكان، فقد أصبحت الشّعوب تريد إجابات راهنة عن سؤال مطروح بقوّة: “ما العمل؟”، إذ بات واضحا أنّ الرّأسمالية تعرّض الصّحة والبيئة للخطر بعد أن كشفت الأزمة عن عدم توافق النّظام الرّأسمالي مع صحّة المليارات من البشر. فقد دمّرت عقود من اللّيبيراليّة نظام الرّعاية الصّحيّة في كلّ مكان وحتّى في البلدان التي يوجد فيها نظام رعاية صحيّة وطني مموّل من الحكومة. فقد تمّ تقليص ذلك عاما بعد عام، وكانت المؤسّسات الصّحّية العموميّة تفقد نسبا مهمّة من التّمويل اللاّزم، في حين تمّت خصخصة العديد من الخدمات، وتمّ كلّ هذا لخفض ما يعتبره الرّأسماليون الإنفاق “غير الضّروريّ”، كما تمّ تخفيض أسرّة المستشفيات، وكذلك وحدات العناية المركّزة، وأصبحت المنظومة الصّحّية تعاني نقصا في العمّال بمختلف اِختصاصاتهم وفي التّجهيزات الحيويّة ونتجت عن ذلك موجات من الهجرة الجماعيّة للأطبّاء من تونس، إضافة إلى معضلة طبّ الاختصاص في الجهات المهمّشة. وقد تمّ بموازاة ذلك إجبار الناس على البحث عن بدائل خاصّة، وفتح مجال مربح للغاية للاستثمار في مؤسّسات الرّعاية الصّحية الخاصّة الّتي سمحت بامتصاص دماء الخدمات الصّحية العموميّة، محقّقة أرباحا هائلة من بؤس المرضى والشيوخ والضعفاء الّذين أصبحوا يعاملون بأسلوب بضائعي يشيّء إنسانيّتهم.
وفي كلّ الحالات كشفت جائحة “كورونا” أنّه لا يمكن تحديد صحّة البشر بالمصلحة الخاصّة، وهو أمر بات مطروحا بشكل خجول في أعتى الأنظمة الرّأسماليّة وتعالى شيئا فشيئا مطالبا بوجوبيّة إزالة دافع الرّبح تماما من الصّحة. وفي المحصّلة فإنّ الحلّ الأنجع الآن هو تأميم جميع مرافق الرّعاية الصّحية المملوكة للقطاع الخاصّ ودمجها في أنظمة الرّعاية الصّحية الوطنيّة، وهذا هو الشّرط الحتميّ لتحقيق زيادة هائلة وسريعة في الإنفاق على الخدمات الصّحية لتلبية الاحتياجات العاجلة للأزمة وتوفير خدمة صحّية عموميّة أكثر فعاليّة، مع ضمان العلاج والأدوية مجانا للجميع عند الطلب، ومن أجل إيجاد حلّ للنقص الحالي في أسرة المستشفيات، يتحتّم تسخير الفنادق والفيلات والشقق الفاخرة غير المأهولة إلّا مناسباتيّا على الفور وتحويلها مؤقّتًا إلى معازل للمرضى وهي تتوفّر على شروط ملائمة للحجر. إذ توجد في أماكن جبليّة ومعزولة وهو إجراء اِتّبعته بريطانيا أثناء الحرب.
وفي نفس السّياق ينبغي إعداد مخطّط طويل المدى لبناء مستشفيات جديدة مع ضمان توفّر ما يلزمها لتقديم خدمات ناجعة، مع إطلاق خطة طوارئ فوريّة لاِنتداب الممرّضين والأطباء وسائقي سيارات الإسعاف والمسعفين وجميع الموظفين اللازمين لإجراء العمليات الجراحيّة والعيادات والمستشفيات، مع ضمان حصولهم على أجر لائق وساعات عمل محدّدة، بدلا من التصرّف الارتجالي المرفوق بالدّموع والمبرّرات المسطّرة بشكل مسبق حيث يعمل الطاقم الطّبي بما في ذلك المتقاعدون فعليّا حتّى الموت من أجل تعويض النّقص النّاجم عن سنوات من الإهمال الإجرامي في ظل أنظمة الوعود الزّائفة المملاة من مؤسّسات الرّأسمال العالمي الدّائنة. ولم تعد مبرّرات قلّة الموارد مقنعة لأنّ التاريخ يخبرنا أنّ هناك دائما أموالا يمكن العثور عليها لملء جيوب الأغنياء أثناء الأزمات: ممثّلة في تعويض أصحاب النّزل والامتيازات غير المتناهية للطّبقة الطفيّليّة المستثرية وخاصّة المنتفعين بقانون المصالحة رغم أنّ هؤلاء هم الّذين أزّموا الأوضاع في تونس منذ عقود مثل المنشار “طالع ياكل، هابط ياكل”، إضافة إلى الأريحيّة الّتي يتواصل فيها تمدّد الاحتكار وتوسّع قاعدة أثرياء الصّحن الفارغ.
محاولات لفرض التّطبيع مع حالة الاستثناء
وفي المقابل يجب الانتباه دائما إلى النّتائج المستقبليّة للإجراءات الحاليّة. فالحكومات الرّأسمالية تستغلّ الأزمة الصّحية لتقليص الحقوق الديمقراطية، وتحظر الإضرابات وتستخدم في كلّ مكان تشريعات الطّوارئ لاتّخاذ تدابير للتّعامل مع الأزمة، وهي تفعل كلّ شيء باِستثناء اِتّخاذ تدابير لمصادرة الأصول والمؤسّسات الصّحّية الخاصّة. وهذا أمر يدخل في صلب الطّوارئ، وتكمن المشكلة في أنّها تستغلّ الأزمة الصّحية لتقييد الحقوق الدّيمقراطية والسّياسيّة وحرّية التّعبير، وبالتّالي فإنّ إخراج الجيش وقوات الأمن إلى الشوارع لا يلعب أي دور على الإطلاق في التعامل مع الوباء ولكنّه يسدّ فراغات تقصير الحكومات تجاه المواطنين ولنلاحظ مثلا إغلاق جميع المستوصفات في كلّ المناطق وهذا يتعارض مع مقولة بذل كل الجهود للتّأكد من اتخاذ التّدابير الأكثر فعاليّة لمكافحة انتشار الفيروس، وهنا ينبغي الاِنتباه إلى عدّة نقاط:
أوّلا: تحديد مفهوم التّطوّع والتّبرّع. فالمواطن ليس مسؤولا عن سدّ فراغات واجب الحكومات الّتي لا تعمل إلاّ لمصلحة الأقلّية المستثرية بمفاهيم “العمل للحساب الخاص”.
ثانيا: تحديد إطار وسياقات تدخّل قوات الجيش والأمن حتّى لا يكون ذلك مدخلا لتأبيد هذه التّمشّيات، أو إعادة توظيفها بكلّ المبرّرات.
ثالثا: الاِنتباه إلى أنّ كثيرا من وسائل الإعلام والوعي المعلّب ستعمل على تلميع الخصخصة وتشويه كلّ مخالفي التّمشّيات التّابعة للّيبيراليّة ومراكز نفوذ الرّأسمال العالمي لاحقا.
مصطلح “التّأميم” يستعيد مكانه في قاموس السّادة
إذن، لقد ناضل الشّعب التّونسي من أجل نيل حقوق المواطنة بمختلف تفريعاتها وهي أمور وقع تعويمها وبيعها بثمن رخيص للأغنياء، وهذا أمر سيتغيّر حتما لأنّ الّذين كانوا يسخرون من مفهوم التأميم باِعتباره أمرا ينتمي إلى ماض بعيد وخاصّة في أعتى مراكز الرّأسماليّة تغيّرت لهجاتهم، في اعتراف واضح بأنّ الرّأسماليّة لا يمكنها التّعامل مع الأزمة الحاليّة. وفي سياق ذلك، ذكرت العديد من الحكومات أنّها قد تكون مستعدّة للتّحرك في اتّجاه تأميم أيّة شركة كبرى قد تُفلس في الفترة المقبلة، ومثال على ذلك ما قاله وزير المالية الفرنسي برونو لومير: “لن أتردّد في استخدام جميع الوسائل المتاحة لحماية الشركات الفرنسيّة الكبرى ويمكن القيام بذلك بإعادة الرسملة، أو أخذ حصّة، ويمكنني استخدام مصطلح التأميم إذا لزم الأمر”. واضطرّ الإصلاحيّون اليمينيّون، الذين كانوا حتى وقت قريب يتدافعون لتأجيج الحملة ضدّ التّأميم، إلى تغيير خطاباتهم إلى حدّ ما. ولكن ينبغي الاِنتباه إلى المقصود بمفهوم التّأميم لدى اليمين ومن والاه من الإصلاحيّين: إنّ ما يسمّونه التّأميم هو في الواقع عملية إنقاذ للرأسماليّة تتمّ بتعويض المالكين الرّأسماليّين، وبالتّالي فهو ببساطة وسيلة أخرى لتحويل أموال الشّعب إلى جيوب خاصّة، وهو أمر اِستمرّ في تونس منذ عقود طويلة وتركّز بشكل خاصّ في ثمانينيّات القرن الماضي عند اِستعار حملة الخصخصة حيث اِستولت البورجوازيّة السّياسيّة على ميزانيّة الدّولة لشراء المؤسّسات للحساب الخاصّ.
هل ستسمح الطّبقة العاملة للرّأسمال أن يتجاوز أزمته الرّاهنة؟
إذن إنّ حركة التّاريخ تتّجه الآن إلى بناء نظام عالميّ جديد وللشّعوب الكلمة العليا في هذا النّظام لأنّ الحكومات لن تخاطر بالوقوف أمام غضب الجماهير، ولن يمكنها استخدام تدابير الطّوارئ وسيلة للسّيطرة المؤبّدة على المواطنين الّذين وقفوا أمام الوهم الكاذب بأنّ الطّبقة البورجوازيّة الحاكمة تحمي النّاس، في حين تظهر الوقائع أنهم يتصرّفون بالفعل دفاعًا عن رأس المال، ويحاولون جاهدين الحديث عن استقرار الوضع، وأنّهم لا يفقدون السّيطرة على الوضع وهو ما كذّبه الواقع في إيطاليا وفي فرنسا والولايات المتّحدة، حيث برزت حالات ظهرت فيها الشّرطة عند خطوط الاعتصام واعتقلت العمّال الّذين كانوا يضربون من أجل المزيد من تدابير السّلامة، وهذا يسلّط الضّوء على خطر إثارة الكثير من الأوهام بخصوص أمن الدولة. فالقوّة الحقيقيّة الآن هي قوّة الشّعوب الّتي بذلت الحكومات مجهودا دائبا لتعميم وعي الفردانيّة بينها. ثمّ اِكتشفت فجأة أنّ على المواطنين التّحلّي بوعي جماعيّ لإنقاذ ماهو مجزّأ أصلا، وفي الختام، إنّ قوى الرّأسمال الدّولي والشّعوب أصبحت تعترف أنّ الرأسماليّة هي سبب الأزمة وليست جزء منها وأنّ الحلّ الجذري لا يبتعد حاليّا عن طريق الاشتراكيّة.