عمار عمروسية
يبدو أنْ لا حدود لعجائب وغرائب بعض رجالات الحكم في بلادنا وخصوصا في أوساط ما يعرف “بالفتيان الذهبيين” الذين تمّ تجهيزهم وإعدادهم ما وراء البحار في أروقة مخابر السياسة البورجوازية ودهاليز الدوائر الماليّة النّهابة.
فالفتيان الذّهبيون هم مشتلة العولمة المتّوّحشة الذين قفز البعض منهم أو بالأصحّ تمّ حقنهم في الحياة السياسية في بعض البلدان العربية مثل حال بلادنا.
وفدوا من هناك مسلّحين في أغلب الأحوال بشهائد جامعات كبرى وخبرات إدارة الشركات والمؤسسات
وبطبيعة الحال “كوتشينغ” عصري يجمع بين أناقة اللباس وتدوير “الزيرو” في فصاحة اللّسان المطبوعة عن قصد بلغات أجنبية.!!!!.
فهم يديرون أوضاع البلد وأزماتها بذهنية ومعارف وآليات إدارة الشركات والمؤسسات. وهم يخاطبون الشعب والرأي العام الوطني حتّى في أشدّ حالات القلق والحيرة بعقلية “العرف الكبير” وسيل مفردات اللّغة الخشبية الميّتة أكثر من الأموات.
والحقيقة أنّ كلمة الفخفاخ عشية أمس عيّنة نموذجيّة لما ذهبنا إليه أعلاه. فتوقيت بثّ الكلمة غريب وغير منسجم مع العادات الاجتماعيّة في بلادنا.
فهل السادسة مساء في شهر رمضان وقت ذروة مشاهدة التلفاز؟ وهل هي لحظة تركيز مواطني على خطاب سياسيٌ؟ وهل هناك ضرورة لاختيار ذاك التّوقيت خصوصا والكلمة تمّ تسجيلها مرّات كثيرة وفق عادات رئيس الحكومة؟
وهل حددّ السيّد “الفخفاخ” وفريقه الإعلاميّ الرّسالة الإعلاميّة من ذاك الظهور؟
وهل فكّروا جيدّا في المضمون الذي سيبقى بعد كلامه في الوسطين السياسي والشعبي؟
الأسئلة كثيرة غير أنّ مدرسة “الفتيان الذّهبيون” لا تكترث في تعاطيها مع الشأن العام إلاّ بنواميس وظوابط إدارة المنشآت الاقتصاديّة.
فالمدير “العرف” في شركته يتكلّم وسط “عمّاله” كما شاء ووقت ما أراد، والمهم أن تدور دواليب الإنتاج وتزداد الإنتاجيّة.
تكلم السيّد “الفخفاخ” 12 دقيقة عن تونس أخرى غير التي نعرفها.
فالأمور حسب تصويره زاهية رغم الصّعوبات وسائرة في الطّريق الصّحيح!!!
فالوضع الوبائي تحت السّيطرة ويدعو إلى الاعتزاز والوضع السياسيّ مستقرّ، فالحكومة متضامنة ومتماسكة ويضيف “كسبنا سندا اجتماعيّا قويٌا ونجحنا في كسب استعادة ثقة الشعب!!!
هكذا تكلّم السيّد “الفخفاخ”، فتونسه ليست تونس الشعب. وكما يقال “العزوزة هازها الواد وهي تقول العام صابة”.
فأزمة منظومة الحكم القائمة بلغت أشواطا متقدّمة في مستنقع التّعفنّ الذي افتضح أمره داخليا وخارجيّا.
فحرب مراكز النّفوذ بين كواسر السلطات الثلاث تنزل بأثقالها على مجمل أجهزة الدّولة وتخيّمّ على المناخ السيّاسي كما لم يحدث من قبل ضمن اصطفافات مخزية وراء محاور إقليميّة ودوليّة ذات أطماع هيمنية سافرة.
حرب الكلّ تقريبا ضدّ الكلّ تطبع علاقة أحزاب الائتلاف القائم بما يهددّ جديّا بانفراط عقد إخوة المصالح والمغانم ويفتح الطّريق واسعا أمام إعادة خلط الاوراق من جديد الذي قد يطيح بكرسيّ “الفخفاخ”.
والأهم من ذلك ازدياد مظاهر السّخط والغضب عن أداء هذه المنظومة ليس فقط في وسط “النّخبة” وإنّما في الأوساط الشعبية من الشمال إلى الجنوب.
فالهوّة إزداد مداها بين الحكم والأغلبية الساحقة من شعب تونس. والسلطة أدارت وجهها عن الجحيم الحقيقي الذي يحياه ملايين الفقراء والمهمشين والعمّال وصغار الفلاحين وشرائح واسعة من الموظفين وأصحاب وصاحبات المشاريع الصغرى.
فالحكم وضع نفسه في جهة، والمحكومون تدفعهم الأوضاع المتردّية والخوف من القادم إلى ترتيب أمورهم في الجهة الأخرى التي تنشد التّغيير وقلب الطّاولة من جديد. إنّ البلاد على صفيح ساخن، وكلّ مؤشرات الهزّات الاجتماعيّة بادية للعيان والمسألة مسألة وقت وجيز مرتبط بالأيّام القليلة المتبقيّة من شهر “رمضان” وبالقليل المتبقّي من الحجر الصحي. دون شكّ رئيس الحكومة يعرف كلّ هذا وغيره وخيّر آليات الإنكار والمغالطة التْي لن تجدي طويلا أصحابها. تكلّم مجانبا كلّ الحقائق المعروفة ولازم الصّمت عن انشغالات الحاضر مثل استمرار عربة الحرائق المتّنقلة ومحاولات الإجهاز على الدّولة المدنيّة بواسطة صناديق الزّكاة. أشار إلى ما يناسب رؤيته للحكم في المتغيّرات الدولية في بعدها الاقتصادي واغمض عينيه عن الاندفاعة المتهورة لشريكه في الحكم رئيس مجلس النّواب “راشد الغنّوشي” نحو توريط بلادنا في سياسية المحاور الرجعية بما يضرّ بالمصالح العليا لتونس وللرّوابط القومية التي تجمعنا بشعوب المنطقة.
تكلّم عن “الإصلاحات” القادمة والمخطط الخماسي الجديد وسياسة “الإنعاش الاقتصادي” بلغة مبهمة وحذلقة العادة دون تدقيقات تذكر. أفظع من ذلك، فالسيّد وجد الجرأة للحديث عن منوال تنموي جديد واعدا بالقطع مع أشكال العمل الهشة وذكر عملة الحضائر والأساتذة والمعلمين النّواب الخ…!! ذكر كلّ هذا ومنشوره الحكومي الذي يغلق باب التشغيل وتسوية الأوضاع المهنية مازال حبره لم يجفّ بعد.
حالة المرفق العمومي في الحضيض والأموال المرصودة لإيقاف هذا التّقهقر زهيدة ويهلكها سود الحوكمة والفساد.
فالسيّد “الفخفاخ” فاخر بنجاح المقاربة التّونسيّة في التّصدّي لجائحة كورونا وقال “نحتلّ المرتبة الثالثة في العالم”. مضيفا منظومتنا الصحية لم تنهار مثل دول عظمى…”.
والحقيقة مرّة أخرى يجانب رئيس الحكومة الصّواب. فالحالة الوبائية في تونس منظورا لها من زاوية أرقام الإصابات والوفيات ليست استثناءا تونسيّا ولا معجزة أيضا.
فأكثر بلدان القارّة الإفريقية وبعض بلدان العالم (أوروبا الشرقية أكثر دول أمريكا اللاتينية..) تقاسمنا تقريبا نفس الحصيلة لعوامل عديدة مازالت قيد الدّرس والبحث العلمي.
ولا نعلم مصدر التّرتيب الذي ذكره، فكلّ الأمور المتعلقة بهذه الجائحة معلومة لدى العموم والجهات العلميّة الموثوقة لم تشتغل على هكذا تصنيف!!!!
بطبيعة الحال نحن نقدّر كلّ مجهودات الإطارات الطبية وشبه الطبية وجميع العاملين في الميدان لمقاومة هذه الآفة. غير أنْ واقع انتشار الوباء لم يجعل المنظومة الصحية أمام اختبار جدٌي لا نظنْ النّجاح فيه بالنّظر إلى الوسائل والمعدّات المتوفرة تحت أيادي الكفاءات العالية.
وقبل كل شيء هل من الحكمة الحديث عن نجاح حكومي في التّصدّي لهذه آلآفة في ظلّ شحّ التّحاليل وغياب صفقة 400 ألف تحليل سريع!!!؟
وهل من المعقول المفاخرة بالنّجاح بعد الفوضى التي رافقت ومازالت وجود الكمّامات في الأسواق؟
وهل من المفيد الحديث عن “المعجزة” بعد الأخطاء التّي صاحبت التّجربة النّموذجية في إجراء التّحاليل السريعة؟
وهل من الصّواب تهافت القرار السياسي على الاستثمار في الأزمة وارتماء بعض وجوه الحكم في إذلال الكفاءات العلميّة وتصفية البعض منها أو سرقة الأضواء الإعلامية من بعضها الآخر؟.
عمار عمروسية