عمار عمروسية
لاشكّ ولا جدال في أنّ انشغال الرأي العام الوطني والعالمي سيظلاّن ردحا من الزّمن تحت ضرورات الاشتغال الفكري والسياسي لفهم ظاهرة الشعبوية التّي تمكنّت في السّنوات القليلة الماضية من اختراق السّاحات السيّاسية والاجتماعيّة وتحقيق منجزات كبيرة في أكثر من بلد بما فيها بلدان ريادة النّظام العالمي القائم.
وممّا لاشكّ فيه أنْ وليد اليوم، ليس طفرة اجتهاد عباقرة أصحابه الآن ولا خارجا عن الشروط الموضوعية للنظّام الرأسمالي.
فشعبوية اليوم تنهل من مورث أسلافها في القرنين الثامن والتاسع عشر مع تعديلات جزئية فرضها السياق التاريخي الحالي، وبطبيعة الحال بعض الخصوصيات المتباينة لهذا البلد أوذاك.
فالشعبوية واحدة في الملامح الجوهرية لبرنامجها السياسي والاقتصادي والاجتماعي ومتعددّة في بعض جوانبه التّفصيلية. فهي اليوم بنت أزمة الرأس ماليّة وعولمة التّوحش والإجابة المغلوطة عن أزمات تلك المنظومة في الاقتصاد والسياسة والفكر والثقافة الخ…
فهي – أي- الشعبوية – في كلّ بقاع ظهورها بالعالم حاملة بعض مظاهر “التّمرد” العنيف أحيانا في نقد البنى الفوقية (الفكر، سياسة، أخلاق…) صامتة وخجولة حيال البنى التّحتيّة (علاقات إنتاج، قوى إنتاج، توزيع الثروة…).
فهي قشرة الثورة على بشاعة الاستغلال الرأس مالي وعفونات الديموقراطية البورجوازية، وهي في جوهرها أوكسيجينا جديدا لإنعاش الهيمنة الفكرية والسياسية والثقافية للسائد.
فالشعبوية التي نحتت خطابها على تغييّر الأوضاع وكسر “السيستام” في خدمة “الشعب” وضعت نفسها في قلب “السيستام” و فاقمت علاّته القديمة بما أسهم في مضاعفة مصاعب الشعوب وويلاتها.
وفي هذا الإطار قدّمت لنا الحياة تجربة الثلاثي الأبرز عالميّا (ترامب، بول سونارو، بوريس جونسون) للوقوف على حجم الإخفاق الكارثي الذي رافق خططهم لمواجهة جائحة كورونا.
1- “دونالد ترامب”
لم يقدر حامل شعار “أمريكا أولاّ” أن يجنّب شعبه المصير الأكثر مأساوية فيما يتعلّق بكوفيد 19. فالدّولة الأعظم في العالم خارت قواها أمام موجة التّغشي المريع لهذه الآفة وأضحت “الدولة القزم” منذ أشهر، فهي في رأس لائحة قائمة البلدان الأكثر تضرّرا على الأقلّ من زاوية الخسائر البشرية.
فعدد الإصابات تجاوز 1.6مليون!!! وعدد القتلى ناهز 96 ألف.
حدث كلّ هذا وفاتورة الحساب مازالت مفتوحة في بلد يحكم العالم بأسره منذ عقود. يحكمه بقوّة الدولار والمنتجات الصناعية والفلاحية وسطوة السّلاح المرفوق بهيمنة المنتج الثقافي والإعلامي.
تغرق “سيدّة” العالم في أزمة صحيّة واقتصادية واجتماعية غير مسبوقة تحت إدارة كواسر اليمين المتطرف وزعامة الوجه الأبرز لشعبويي اليوم الذي قابل بداية انتشار الجائحة في “الصين” بمنطق الاستخفاف والعنجهية، وواصل ذاك الاستهتار المضحك في التّعاطي مع انتشار وتفشي كورونا في بلده.
فأمريكا القويّة وفق منطقه بمنأى عن “الفيروس الصيني” كما قال. وهي القادرة على سحقه خلال أيّام!!! دون اللجوء إلى إجراءات الحجر الصحي والوقاية. ووصل به هوس العظمة وضيق الأفق حدّ النصح بحقن المرضى مواد التّعقيم والنّظافة والتّشجيع على الوقاية بتناول دواء”الكلوروكين”.
2- بريطانيا:
لم يبتعد مصير هذه الدّولة كثيرا عن السّابقة رغم الانتشار المتأخر لهذه الجائحة قياسا بشقيقاتها في إيطاليا وإسبانيا… غير أنّها سرعان ماافتّكت مشعل الخسائر منهما وقفزت دون منازع إلى المرتبة الثانية في عدد الأموات بـ43 ألف قتيل وأكثر من 251 ألف مصاب.
فالقفز إلى هذه المراتب في جزئه الأكبر محصلة مقاربة همجيّة روّج لها رئيس الوزراء “بَوريس جونسون” الحالم باستعادة أمجاد بريطانيا العظمى من خلال فكّ الارتباط مع “الاتحّاد الأوروبي” المنهك والضعيف حسب قوله.
فـ”جونسون” المغرم بأسلوب نظيره الأمريكي في إدارة شؤون الحكم داخليا وخارجيّا وقف أسابيع أمام كلّ إجراءات العزل والتّباعد الجسدي مرتكزا على نظرية مناعة القطيع بما تحمله من وحشيّة ودمار. ظلّ متمترسا وراء نظرية البقاء للأقوى والانتقاء الطبيعي دون إقامة اعتبار لمعارضية من سياسيين وعلماء، ولم يغيّر المقاربة إلاّ بعد مشارفته الهلاك ودخوله إلى قسم العناية المركزة لأيّام.
3- بول سونارو:
ودّعت “البرازيل” كلّ أفراحها وغرقت في مستنقع مشاكلها منذ اعتلاء “بول سونارو” الحكم، فرافع شعارات مقاومة الفساد أشاع الفساد كما لم يحدث. وخادم “الشعب” أثقل كاهل شعبه بالضرائب والأتاوات وفسح المجال أمام عصابات الجريمة والقتل.
وحبيب “الفقراء” كما يحلو له دوما نعت نفسه رمى كلّ شعبه تقريبا فريسة لجائحة كورونا.
فهو مثل سابقيه قاوم كلّ مساعي الاستباق والتّوقي، وخاض حربا حقيقيّة بقوّة الدّولة وميليشيات السّلاح ضدّ أنصار العزل والتّباعد الجسدي، الأمر الذي جعل “البرازيل” حالة فريدة في محيطها الجغرافي.
فعدد الإصابات فاق 300 ألف والقتل ناهز 20 ألف.
و الأخطر من ذلك أنه وضع البلد من جديد على أعتاب عودة الانقلابات العسكرية وحكم الجنرالات.