علي البعزاوي
كثر الحديث في الآونة الأخيرة وككل مرة منذ انتخابات 2014 إلى اليوم عن ضرورة تغيير النظام السياسي والقطع مع النظام الحالي الموصوف بالبرلماني المعدل. وبقطع النظر عن تصور كلّ طرف للنظام المقترح كبديل فإنّ الجميع تقريبا يختزلون أزمة البلاد في نظامها السياسي دون اعتبار للقضايا الأخرى السياسية والاقتصادية والبرامج وغيرها.
فما هي الخلفيات والأهداف
إنّ المكونات الأساسية للحكم لا علاقة لها بالديمقراطية كثقافة وكأسلوب حكم، رغم أنها وصلت إلى السلطة عن طريق الديمقراطية. وهي لا تستطيع التعايش مع بعضها البعض في منظومة حكم على قاعدة برنامج أدنى جامع. وقد أكدت تجربة الحكم منذ 14 جانفي أنّ كلّ طرف يسعى إلى التغوّل والتمكّن من مفاصل الدولة وتهميش باقي المكونات. فالسبسي عمد إلى تغيير الدستور والنظام السياسي في اتجاه نظام رئاسي لسحب البساط من تحت أقدام النهضة التي تهيمن على البرلمان، السلطة الأساسية في النظام الحالي. وقيس سعيد يطرح اليوم نفس المطلب من زاوية الهيمنة على الحكم وفرض الأجندا الخاصة التي أطلقها منذ حملته الانتخابية. أما حركة النهضة فتتمترس وراء النظام الحالي لأن لها أكبر كتلة في البرلمان وهي القائد الأول للسفينة. وتسعى في نفس الوقت استغلال هذه الوضعية لمزيد التمكن من مفاصل الدولة.
إنّ مساعي الهيمنة وتوظيف مؤسسات الدولة للمشروع الخاص هي التي تدفع سواء إلى المطالبة بتغيير النظام السياسي أو الإبقاء عليه. هذه المواقف المتناقضة لا علاقة لها بالديمقراطية ولا بإصلاح أوضاع البلاد والخروج بها من أزمتها.
الدافع الثاني للمطالبة بتغيير النظام السياسي هو محاولة الإقناع بأنّ أزمة البلاد المستفحلة تختزل في هذه المسألة، وأنه للخروج منها ومعالجتها ينبغي تغيير النظام السياسي ليصبح التنظيم الأفقي على شاكلة اللجان الثورية القذافية بالنسبة إلى قيس سعيد وأنصاره هو الحل، والنظام الرئاسي بالنسبة إلى بعض الأطراف الأخرى هو الحل.
الدافع الثالث هو السّعي من خلال هذا الطرح إلى تقويض منظومة الحكم برمتها والعودة إلى المربّع القديم مربّع الدكتاتورية التجمعية، والمطالبة بتغيير النظام السياسي هي مجرد مدخل لذلك.
هل بالإمكان تغيير النظام السّياسي
إنّ المدخل القانوني لتغيير النظام السياسي يشترط إجراء تغيير على الدستور حتى يتسنى المرور إلى هذا التعديل. وهذا متاح لرئيس الدولة ولثلث البرلمان اللّذان بإمكانهما تقديم مبادرة تشريعية للغرض. لكن مرور هذا القانون يتطلب الموافقة بثلثي أعضاء البرلمان وهو عمليا أمر مستحيل بالنظر إلى التركيبة الحالية للبرلمان ولطبيعة التحالفات داخله.
ثانيا القوى القديمة من تجمّع وبقايا نداء تونس غير قادرة على الإطاحة بالمنظومة عبر الاحتجاج والاعتصام لأنها معزولة وغير قادرة على التعبئة بالنظر لبرنامجها المعادي للشعب والبلاد. وهي أبعد من أن تكون قادرة على هذه المهمة التي يمكن أن تنجح في حالة نهوض شعبي بقيادة أطراف أخرى لها برنامج بديل وقادرة على التعبئة ونيل ثقة الشارع، ونعني القوى المدنية المستقلة عن المنظومة القديمة والحالية والقوى الديمقراطية والثورية وفعاليات الشباب والنساء وأبناء الشعب في الأحياء الشعبية والأرياف التي فتكت بها أزمة “كورونا“ ولم تجد في المنظومة الحالية سندا لها يحميها ويساعدها على العيش.
نأتي هنا إلى مسالة أخرى على غاية الأهمية وتتمثل في التوقيت الذي طرحت فيه مسألة تغيير النظام السياسي. فهل اكتمل هذا النظام ووقعت تجربته واتضح للنخب وللشعب التونسي أنه يشكّل معضلة، وبالتالي وجب تغييره. ونحن نتساءل أين المحكمة الدستورية التي تناستها أطراف الحكم لغاية في نفس يعقوب؟ وأين باقي الهيئات الدستورية التي بتأسيسها تكتمل أركان النظام السياسي. لماذا لم يقع انتخابها ووضع مستلزمات النشاط على ذمتها حتى تلعب دورها وتكتمل بذلك أركان هذا النظام المستجد. ثم بعد ذلك يقع الحكم له أو عليه.
إنّ الاستنتاج المنطقي يتمثل في أنّ الأطراف الرئيسية التي تدفع في اتجاه تغيير النظام السياسي وحتى الرافضة له إنما تطرح المسألة وتتعاطى معها من زاوية حرف الأنظار عن جوهر الأزمة الحقيقي الذي لا علاقة له بالنظام السياسي.
فالزائدة لا تتطلّب “اسبيرين“ لمعالجتها والسكري لا يتطلب “اسبيجيك“ للحد من تأثيره على جسم المريض. فلنبحث عن جوهر الأزمة الذي تختزله القوى الثورية والتقدمية في الخيارات الاقتصادية والاجتماعية ومنوال التنمية وضرورة القطع مع الإملاءات الخارجية والكف عن النشاط بالوكالة لصالح كبرى المؤسسات والشركات العالمية النهّابة وإرساء نظام اقتصادي واجتماعي مستقل خادم للأغلبية وداعم للسيادة الوطنية وفي مقدمتها السيادة على ثرواتنا الطبيعية التي تباع للأسف من طرف المنظومة الحالية خدمة للأجندات الخارجية الداعمة لكلّ طرف من أطرافها .
أيّ نظام سياسي نريد
أوّلا لابد من استكمال النظام الحالي ببعث باقي الهيئات الدستورية وفي مقدمتها المحكمة الدستورية وضمان استقلاليتها وتمكينها من خلال ميزانيات معدّة بصفة مستقلة لتأمين نشاطها، على أن تخضع مثل غيرها من المؤسسات للمتابعة والمحاسبة.
ثانيا نؤكد على ضرورة أن تلعب القوى الثورية والتقدمية وكل أنصار ثورة الحرية والكرامة دورا في المطالبة باستكمال باقي المؤسسات الدستورية والهيئات المستقلة والدفاع عن استقلاليتها حتى لا يقع توظيفها وإلحاقها بالمنظومة الحاكمة لأنّ في استقلاليتها دعم للديمقراطية وسدّ الباب أمام التغوّل والهيمنة من قبل السلطة التنفيذية.
ثالثا المطالبة بسن قوانين تُجرّم استعمال المال السياسي الفاسد وتوظيف المؤسسة الدينية لخدمة الأجندات الانتخابية وكل أشكال التكفير والاعتداء على حرية المعتقد والضمير التي استعملت في أغلب الانتخابات السابقة لتصفية وإضعاف الخصوم السياسيين.
رابعا نؤكد على أنّ نجاح كل نظام سياسي هو رهين توزيع سلطة القرار على أوسع نطاق ممكن وعدم رهنها لجهة بعينها مثلما هو رهين الانتخابات الديمقراطية والشفافة التي من الضروري حمايتها بقوانين وفي مقدمتها القوانين المجرّمة لكلّ أشكال التأثير على الناخبين. هذا بالإضافة إلى إعطاء دور أكبر للمبادرات الشعبية التي يجب أخذها بعين الاعتبار في سن القوانين وضبط السياسات واتخاذ القرارات.