يمشي باي ويجي باي
ما تتبدل كان الكسوة
يا عذاب الحي
شاعر مجهول غناء الفقيد الزين الصافي
*اللحية” الشريفة”
مرّت يوم 12 ماي 1881 ذكرى معاهدة باردو، حيث أمضى محمد الصادق باي اتفاقية العمالة والخيانة الوطنية مع الغزاة مبرّرا توقيعه بالحفاظ على شرف لحيته، حسب وهمه طبعا. ولم تكن تمثل للمحتل حتى مجرد تفصيلة، بل إنه اختزل الخمس ساعات الممنوحة له للتفكير لساعتين فقط ليكمل استباحة الوطن.
وعاش الوطن والشعب إثرها واستدراكا قبلها طبعا عقودا طويلة من القهر الوطني والاستلاب الكامل لسيادته والنهب الممنهج لثرواته والإذلال لكرامته الوطنية والتقتيل والتعذيب والسجون والمنافي وكل الجرائم المعادية للإنسانية. وقاوم بصدور عارية وأيادي عزلاء بما تسنّى له من سلاح، عفويا حينا ومنظما في أرقى تمظهراته، مسنودا بحركة وطنية دعّمته حينا وأدارت ظهرها أحيانا له حين المساومات. وكان شعبنا محظوظا بتكوين، على خلاف بقية المستعمرات، حركة نقابية اجتماعية بمختلف مكوناتها التاريخية تُوّجت بتأسيس الاتحاد العام التونسي للشغل ممّا أدّى إلى اغتيال أمينه العام الشهيد الرمز فرحات حشاد في محاولة من المستعمر لنزع أيّ صبغة اجتماعية تقدمية للحركة الاستقلالية وتوفير شروط تفاوضية مريحة.
تونس 1955\2010
منذ 1955 توصّل الشق البورقيبي من حزب الدستور إلى اتفاقية ما سمّي بالاستقلال الداخلي، رأى فيه الشق اليوسفي خيانة لتضحيات الحركة الوطنية وشهدائها وطالبت بالاستقلال التام. وحدثت حرب دامية بين الشقين. وتعتقد بعض المقاربات التاريخية أنّ الصراع في جوهره لا يعكس تماما المعلن. إذ مثل اختلافا جذريا حول المتوقع الدولي والإقليمي لتونس. واختار الشق البورقيبي محور أمريكا وحلفائها، بينما اختار الشق اليوسفي مصر وحلفاءها الروس بعد الانحراف الخروتشوفي في الاتحاد السوفياتي. وانتهى الصراع بمئات من الضحايا من اليوسفيين والذين وللتاريخ قاموا بتضحيات بصدق ومبدئية دفاعا عن قضية اعتقدوا أنها الوطنية ذاتها غير واعين بلعبة المحاور ولا باختلاف المشروع المجتمعي والمدني لكلا الشقين. ويبقى للتاريخ مهمة التدقيق والتوضيح.
في سنة 1956 أُمضي بروتوكول 20 مارس. ولئن قُدّم على أساس أنه يلغي الاستعمار المباشر نهائيا، فإنه لم يعط التونسيين سوى السيادة الشكلية تاركا للمستعمر الأمن والجيش وبعض الإدارة والأراضي الخصبة والتى اجتهد بورقيبة في تفكيكها دون صراع معلنٍ، مستندا على التناقض بين الامبرياليات أمريكا وفرنسا تحديدا. وقد اختار الاصطفاف نهائيا إلى جانب الامبريالية الجديدة الرابح الأبرز من الحرب العالمية الثانية. ولا ينكر أحد أنه سعى إلى تحديث المجتمع تعليما وحرية للمرأة وصحة. ولكن الهدف الحقيقي كان إنشاء قوى إنتاجية جديدة قادرة على تعويض المحافظ منها والعمال ذي الأصول الأوروبية المغادرة، واعتمد منوالا تنمويّا تراوح بين رأسمالية الدولة الممركزة والاشتراكية المقلوبة على رأسها. إذ لم تؤمّم إلاّ أملاك الفقراء وصغار الفلاحين، ثم ليبرالية متوحشة زادت من نموّ طبقة كمبرادورية متعلمة كان ولاؤها تاما وكاملا لأسيادها ومهدت لانقلاب بنعلي.
منذ انقلاب الجنرال بنعلي بيع كلّ شيء في الوطن بحكم خلفيته المتخلفة وعدم امتلاكه لأيّ كاريزما، خلافا لبورقيبة. واستطاعت أكثر دوائر الرأسمال الأجنبي مافيوزية الاستقرار والاستثمار في تونس، مستغلة التسهيلات الإدارية والضرائبية ورخص اليد العاملة. ووفّر نظام الاستبداد النوفمبري استقرارا سياسيا مغشوشا يعتمد على دكتاتورية فاشية عمياء وتدجين مجتمع بكامله وأصبحت شؤون تونس تدار وحتى الداخلية منها من مكاتب سفارات الحامين الجدد وفقدت أو كادت أدنى مقومات السيادة.
ثورة الحرّيّة والكرامة والسّلطات المتعاقبة 2011\2020
كان الشعار المركزي لثورة 17 ديسمبر – 14 جانفي والمسبوقة بمحطات انتفاضية وحركات اجتماعية متعددة هي: “شغل، حرية، كرامة وطنية”، وهو شعار يلخّص المهام المركزية للثورة الديمقراطية لشعبنا، وحقّه في منوال تنموي شعبي اجتماعي وفي حرية سياسية غير منقوصة وفي تحقيق السيادة الوطنية والانعتاق من الرضوخ للامبريالية المتحكمة في رقابه عبر صناديق النهب.
ولكن وللأسف فإنّ انتخابات 2011 و2014 و2019 لم تأت بما يطمح إليه شعبنا لأسباب معقدة ومبرمجة. فأعادت إنتاج نفس النظام بأساليب مختلفة. فازداد الارتهان للقروض من صناديق نهب تكاد لا تنتهي عوضا عن السعي إلى إلغائها أو على الأقل لمفاوضة شروطها مقابل ازدياد البطالة والفقر والتهور المريع في المقدرة الشرائية والسعي المحموم إلى بيع ما تبقّى من المؤسسات العمومية وحتى الاستراتيجية منها. ولم يبق إلاّ الحرية السياسية المهددة أصلا من السلطة وقوى الظلام الصاعدة والمحميّة من بعض الأطراف وبعضها ممثل في البرلمان .
واجب التأكيد هنا أن لا فرق بين اليمين الديني واليمين الحداثوي وإن اختلفا حول جنسية الوكيل. فبعضهم اختار محور السعودية الإمارات المدعوم أمريكيا والبعض اختار صندوق الائتمان الإخوان القطري وأحلام العثمانيين ممثلا في إخوان تركيا والمدعوم من بريطانيا وأمريكيا. ولم يخل إسقاط قانون تجريم التطبيع مع الكيان الصهيوني مقابل المسارعة في طرح معاهدات معهما (قطر وتركيا) من مذلة حتى شكليا، وكأنّ الانتماء الوطني أصبح ثانويا أمام المصالح الإقليمية وصراعهم في ليبيا حاليا والجزائر في مرحلة قادمة وهي لأسباب متعددة تحيلنا إلى معاهدة 1881 المشؤومة.
قبل الخاتمة
“إنّ التاريخ إن أعاد نفسه ففي شكل مأساة وإن أعادها ثانية ففي شكل لحية مهزلة”
عفوا ماركس
محمد الهادي العفيف