عمار عمروسية
وطني هل أنت بلاد الأعداء
هل أنت بقية داحس والغبراء
مظفر النّواب
وسط ذهول كبير يتابع الرأي العام الوطني حيثيات الفاجعة الكبيرة التي أصابت شبيبة الفقر والتّهميش في بلدتي “الحاجب” و”جلمة”.
هي دون شكّ خروج درامي من مخاوف وتداعيات فيروس “كورونا” التي أمهلت فضاءات الخصاصة وغياب الدّولة فسحة الحياة القاسية وسقوط تحت فتك “الكولونيا” التي حوّلت جلسة “شيخة” المعدمين والمقصيّين من خيرات الوطن إلى مأساة أحزان يحاصرها الموت للبعض والإعاقات الدائمة للبعض الآخر.
حزينة أيّام أهالي “حاجب العيون” الذين أضحت التفاصيل البسيطة لكلّ حياتهم توديع الأحبّة إلى المقابر والتقاط أخبار النّاجين من مجزرة مشروب “الغلابة” وسكر المهمومين تحت سياط عقود عقوق الدّولة وتوحش منوال التنمية القائم على نفي المنطقة وسحق مواطنيها.
لوعة الأمهات والأخوات كبيرة لفقدان شبيبة القهر، وحرقة رجالات هذه الفاجعة استعادت كلّ مضامين دفاتر العقود الطويلة من زيف الخطاب الرّسمي المغلّف بسرديات التّوظيف الهابط للموروث الدّيني والتّاريخي.
“حاجب” قيروان “عقبة بن نافع” و”عاصمة الثقافة الإسلامية” تغرق في أحزانها وحيدة منسيّة من قبل منظومة الحكم القائمة، وضمن تغطية إعلاميّة باهتة فيها الكثير من تلميحات إدانة الضحايا الأحياء والأموات على حدّ السّواء.
وحدهم يذرفون الدّمع ويلعقون مرارة التّصريحات الاستفزازية لوالي الجهة وتحصّن الحكومة بالصّمت الذي شارف مراتب “الحقرة” الطبقية والجهوية التي جعلت من “الحاجب” وولاية “القيروان” في رأس قائمة جهات الفقر والانتحار.
خرج الأهالي صبيحة اليوم في مسيرة الغضب ومن الممكن جدّا أن تتدحرج الأوضاع نحو خطوات إضافية لتّصعيد حراك المعدمين خصوصا وفاتورة الخسائر البشرية مازالت مفتوحة وقابلة لمزيد الثّقل بالنٍظر إلى العشرات من أبناء مقبرة الأحياء مازالوا موّزعين في غرف الإنعاش بمستشفيات عديدة (القصرين، المهدية، سوسة…).
المصابون يصارعون من أجل سرقة حياة جديدة والأهالي يكابدون في ظروف الحجر الصحي لالتقاط تسريبات شحيحة حول نجاة هذا المصاب أو ذاك. في مقابر القرى المفتوحة في أراضي الجدب رقدت جثامين الشبية دون مراسم جنائزية لأولاد “كبارات” المال.
ابتلعتهم أراضي القحط مثل غيرهم من بسطاء البلد دون حضور صفوف أصحاب البدلات الداكنة والنظارات السودأء وباقات الورود.
شيّعت والدة الثلاث شبّان أبناءها من ساحة منزلها المتواضع بدموع أمّهات الفقراء وانكسارات العجز أمام جور “السيستام”. وغالب “عم صالح” أوجاعه وحمل نعش ابنه الوحيد ليدفن مع جثته أحلام الوظيفة التي طال انتظارها رغم شهادة التّعليم العالي.
فاجعة “الحاجب” من الأكيد ليست الأولى ولن تكون الأخيرة تحت هذه المنظومة التي أخذت على عاتقها تسريع وتائر دورية تنظيم التّقهقر الاقتصادي والاجتماعي والسياسي في بلادنا.
فمنظومة الحكم أشاحت بوجهها عن شعبها وغرقت في صراعاتها بما جعلها اليوم وأكثر من أيّ وقت مضى عبئا ثقيلا على رقاب السّواد الأعظم من شعب تونس.
فالعائق أمام نهضة البلد على جميع الأصعدة هو “السيستام” كلّه الذي عمّق التّفاوت الطبقي وعزّز الاختلال الجهوي وأنهك المرفق العمومي وفتح الطّريق واسعا أمام مافيات المال والسياسة وأعاد الوضع الصحّي إلى مخاطر أمراض العقود الخالية مثل “التيفوييد” بـ”قبلي” و”البوصفير” في “قابس”.
منظومة الحكم أفسدت الحياة السياسيّة ووضعتها تحت نير سطوة المال الفاسد وفككّت الاقتصاد وحوّلته إلى “بازار” رثّ تحت رحمة أقليّات شديدة الجشع والفساد.
والمنظومة خرّبت النّسيج الاجتماعي ووضعته على سكّة الفتن القبلية والجهويات بما يسمح لها ضمان ديمومة مصالحها وحكامها.