مراد الحاجي
حين يموت ابن أحد أباطرة الإعلام والسياسة في حادث عندما كان عائدا من سهرة ما يعلن الحداد في قناة تلفزية ويحضر علية القوم الجنازة ويطلق برنامج تلفزي باسمه ويترحّم الجميع على الميت حتى صارت جملة يرحم خليل لازمة من لوازم الخطاب. أمّا حين يموت أبناء الشعب تعلو أصوات من جهات متعددة تشتم وتحمّلهم وحدهم المسؤولية ويترحم البعض على مضض وينكر عليهم آخرون حتى حقّهم في الانتشاء والهروب من واقع مرّ بقطع النظر عن الوسيلة.
القوارص وما أدراك ما القوارص. اختزل أغلب الخائضين في المشكلة في القوارص وتجريم منتجها وشتم مستهلكيها والتعجب من حالهم,.
بل إنّ البعض سيلعنهم لأنهم أيقظوه من قيلولته الهانئة على جلبة تزعجه وتقول إنّ هناك تونس أخرى غير التي يعرف، وإنّ ما يحصل عرّى وهم المواطنة وزيف الايديولوجيات ووهم الدولة وتشقشيق أحناك الحريات التي تضحى بلا معنى حين يموت الأمل. حين يدفن الأمل عند الإنسان يصبح روحا تائهة تعيش على الهامش.
لقد اختزل الحبيب الجنحاني ذات مقال في التسعينات قهر العولمة في صورة تلخّص رمزيا ذاك التمزق بين الحلم والواقع، بين الرغبة والقهر والكبت، بين من يعيشون وبين من يحييون. فتحدث عن “صورة شاب من أحياء الدار البيضاء أو أم درمان القصديرية يتأمل مفاتن الممثلة الامريكية باميلا أندرسن في لوحة إشهارية عملاقة. قد تحتاج الصورة هنا تحليلات متعددة. لكن ما يهمنا منها ذاك الحلم الذي يسوق للجياع فيحلمون للحظة يقظين ثم يستفيقون على واقع الألم فيطلبون غيبوبة هروبا من قسوة ما يعيشون.
انطلقت أصوات عدّة شاتمة: اللعنة عليكم يا “متع القوارص” لقد أفسدتم على جماعة الشعب مسلم ولا يستسلم الصورة الجميلة. فها هو الشعب الجائع يقول لهم إن “القوارص” أهم من صلواتكم التي لم تعد تخدّرنا ونحن ننتظر سورة “القوارص” التي لم يكتبها أحد بعد. الشعب اليائس البائس يلعن كل شيء ويهرب منكم إلى “القوارص” .
اللعنة عليكم يا “متع القوارص” لقد أفسدتم الصورة الجميلة لجماعة الدولة الوطنية الحداثية التي وزعت الفراخ والحمام على رأي الشيخ إمام حتى أنّ القمل انسحب وداخ. كيف تفعلونها وتقولون إنّ هناك مناطق عانت التهميش ولم يلتفت إليها أحد من الزعماء الأشاوس أرباب المواطنة والحريات. فكشفتم لهم أنّ مناطق الظل كما أسموها مدة عقود مازالت مناطق ذل يهرب منها الناس إلى الغيبوبة بالقوارص في تجسيد لمقولة شهيرة بين التونسيين حيبن يعبّرون عن النقمة والغضب: “اعطيني حتى القتّال نشربوا”.
وشرب أهل القرية القتّال هربا من الواقع وطلبا للغيبوبة. سيحاضر البعض عن مسؤولية الفرد وعن الوعي وعن حفظ النفس وعن الحريات وعن ميل الناس هناك إلى الكسل ورفضهم العمل في الفلاحة، وهو ما يجودون به علينا في كل حين. قد يقولها لك متعلم مثقف او مدافعة عن الحريات أو مدافع عن الخلافة أو الدولة المدنية، ولكنهم في أوّل اختبار يفشلون حين يزورهم حامل الشهادة ابن ذلك الريف وقد يكون دكتورا لم يجد عملا ليخطب حبيبته التي درست معه في الجامعة ويسألونه: ماذا تشتغل؟ ما رأيهم لو قال لهم: “والله بطال ونجني في الزيتون ننطّر في مصروفي وبش نسكّن بنتكم في هاك الدار اللي شفتوا تصاورها”. إذا كنا متفائلين سنجزم بأنّ 80 بالمائة منهم سيلومون ابنتهم ويرفضون أصلا مخاطبته من جديد وقد يمنعونها من لقائه وهذا الاختبار وحده كاف لكشف زيف الشعارات.
كم أنتم مزعجون يا جماعة” القوارص” لِمَ فعلتموها وأفسدتم على الجميع غيبوبتهم، فقد كانوا ساهين عن وجودكم أصلا . لقد اهتموا بكم أياما بعد ما سمّي ثورة ودخلت كاميرات التلفزيون مجاهل القرى لتكشف الفقر المدقع. وأطلق الكثيرون زفرات الألم وشتموا النظام السابق. ثم جاءت صفّارة انتهاء الاستراحة. فعادوا إلى مشاغلهم وإلى عوالمهم ونسوكم تماما. وأصبحت كاميرات التلفزيون تهتم من جديد بمن كبرت أو انقصت وبمن تزوّج وطلق وطائرة فلان الخاصة. وكانوا يمنحونكم حيزا صغيرا حين تموت أمهاتكم وبناتكم في حوادث سير تنقل فيها العاملات. وحينها يشتمونكم أيضا لأنكم نائمون والنساء يشتغلن وينسون أنّ علاقات الهيمنة هذه هي الأخرى وليدة الفقر المستشري والجهل وأنّ تلك الذكورة التي يشتمونكم بها هي وليدة التهميش والفقر والمعاناة وأنكم ككل البشر غريزيا تتصرفون بمنطق البقاء للاقوى، ولكنكم لم تهذّبوا تلك الغريزة وتلبسوها قفازات. فتتمسّكون ببقايا نفوذ ذكوري بائس. وهي نفس الذكورة التي تدفع إلى الغيبوبة وتعمّق الألم حين تجدون أخواتكم عاملات في منازل الأثرياء أو في المواخير التي يتشاتم عليها القوم من النوائب بالانتماء إليها، وهو جرح نرجسي للذكورة يجعله الجهل يبحث عن تنفيس في أيّ مجال ومنها “القوارص” .
كم أنتم مزعجون يا جماعة “القوارص، طاح فيكم ربي عواشر وتشربوا ومن باب التنويع قد نقول طاحت فيكم نساكم يا ذكوريين يا عاهات”. ما أكثر النفاق وأسهل إطلاق الشعارات. وكم يحيد النقاش عن مساره الطبيعي حين تصبح المشكلة في من مات. ثم كم هو طبقي هذا الموت الله يرحم جماعة “القوارص” لن تجوب شاحنات تحمل صورهم مدن البلاد ولن يترحّم عليهم أحد. بعد أيام سيصبحون رقما من أرقام الموتى ومادة للتندر ولا أحد سيبحث لِمَ يفعلون ذلك بأنفسهم. أ لم يحصل هذا مع رحمة وسرور حين احترق المبيت؟ سينتصب الجميع واعظا بعضهم باسم الدّين وبعضهم باسم الحداثة وبعضهم باسم مسؤولية الإنسان. لكن الكثير من هؤلاء لو ولد في نفس الظرف ربما كان ضحية اليوم من ضحايا “القوارص” .
حين يموت الامل تصبح الغيبوبة مطلبا. وهذه البلاد تقتل الحلم في فئات كثيرة وليست الدولة وحدها مسؤولة. نعم تتحمل الوزر الأكبر بتعليمها وصحتها وبناها التحتية وحيفها في توزيع الثروة ولكن يتحملها الجميع المسؤولية بشكل أقلّ، الجميع بلا استثناء. فهؤلاء الذين يعيشون الهامش قد يشتمهم الأمن الجمهوري ويعنّفهم لأنهم مجرد جهلة وريفيون لا يمكن أن يحترمهم أو يخشاهم. وهم عرضة للمعلم الذي يعنّف والأستاذ الذي يهين والموظف الذي يعاملهم على أساس مظهرهم وعامل المستشفى الذي يعاملهم على أساس نطقهم لبعض الحروف. قبل أن نحاسبهم وأن نشتمهم ما أحوج الجميع إلى أن يحاسب نفسه وأن يشتمها. ما أحوجنا إلى أن نكفّ عن التصرف بعقلية المتعالي مع أبناء وطننا. وينبغي أن نفهم لماذا يقنعهم الخطاب الذي يقول لهم إنّ النخب وكلاء الاستعمار وأنّ بلادهم مازالت مستعمرة. ما أحوجنا إلى أن نسمع أصواتهم فعلا وأن تفتح أبواب الأمل لأنّ “التابع” لم يتكلم بعد. فإذا هو يتكلم بموته بالقوارص. وهاهو يقولها على طريقة أبي نواس:
ألا فاسقني عطرا وقل هو العطر
ولا تسقني قهرا إذا أمعن العهر