علي البعزاوي
عندما اشتدّت أزمة الرّهون العقارية في الولايات المتّحدة الأمريكية مُعلِنة بداية أزمة جديدة للرأسمالية في مختلف دول العالم الرأسمالي، كان ماركس حاضرًا بامتياز، سواء من خلال المفكّرين الذين دعوا إلى قراءة ما كتب أو من خلال العودة إلى التفكير الجدّي في الاشتراكية كحلٍّ لأزمات الرأسمالية التي ما فتئت تشتدّ وتتعمّق في كل دورة.
المنظّر البورجوازي وصاحب مقولة نهاية التاريخ “فرانسيس فوكوياما” تراجع عن إعلانه حول “نهاية التاريخ” في اللحظة الرأسمالية وعاد ليتحدّث عن إمكانية الحلّ الاشتراكي دون أوهام طبعا عن الاشتراكية التي يتصوّرها، وهي اشتراكية معدّلة بما يحفظ مصالح رأس المال.
جائحة كورونا التي عرّت الرأسمالية وكشفتها على حقيقتها كمنظومة جشعٍ وتوحّشٍ واحتقارٍ للذات البشرية وتقديسٍ أعمى للرّبح، أعطت بدورها دفعا في اتّجاه الحديث عن إمكانية الاشتراكية كحلٍّ بديل عن الرأسمالية المهترئة.
ماركس والاشتراكية يعيشان انتعاشة ويسجلان العودة في كل أزمة. فهل حان وقت الاشتراكية فعلا؟ وما هي العوائق التي تحول دون انتصارها على الرأسمالية؟
موازين القوى المختلّة
لقد أكّـد القائد الشيوعي لينين أن الامبريالية هي عشيّة الثورة الاشتراكية، وهي كذلك في هذه المرحلة من تدهور أوضاع النّظام الرأسمالي ودخوله في سلسلة من الأزمات الدّورية المرتبطة بتناقضاته الداخلية مثلما حدّدها لينين نفسه:
– التناقض بين البورجوازية والطّبقة العاملة
– التناقض بين الامبريالية والشعوب والأمم المضطهدة
– التناقض بين الامبرياليّات والاحتكارات
هذه التناقضات دخلت في مرحلة الاحتداد الشّديد وهي مستعصية على الحلّ، فالطبقة العاملة لا تثِق في البورجوازية وتدرك أن خلاصها غير ممكن في ظلّ الرأسمالية، وهي تخوض الصّراع بلا هوادةٍ من خلال النقابات والحراكات الاحتجاجيّة المفتوحة لتحسين أوضاعها وتغيير واقعها. وكذلك الشعوب والأمم الرّازحة تحت النِّير الامبريالي، فهي مُدْركة بهذه الدّرجة أو تلك لحالة القهر والهيمنة والتبعيّة التي تعيشها والتي تكبّل ازدهار وتطوّر اقتصاديّاتها وتريد الاستفادة من ثرواتها الطبيعيّة والبشرية. والصراع بين الامبرياليّات من أجل التحكّم والسيطرة جارٍ على قدم وساق من أجل السيطرة على الأسواق وعلى الثروات الطبيعية, وقد تقود أزمة الرأسمالية إلى حربٍ كونيّةٍ مدمّرة لإعادة صياغة العالم.
الرأسمالية تجد إذا صعوبات جدّية اليوم في معالجة أزمتها من خلال سياسات وإجراءاتٍ اعتادت على اتّخاذها. والأزمة الأخيرة التي انطلقت منذ 2008 طال أمدها، وهي تتّجه نحو مزيد الاستفحال دون أن تهتدي الرأسمالية إلى الحلول الكفيلة للخروج منها، على عكس ما كان في السّابق حيث استطاعت في كل أزمة دورية أن تجد الحلول والمعالجات سواء بتكثيف استغلال المستعمرات وأشباه المستعمرات وتصدير الرّساميل خارج دول المركز، أو من خلال مزيد المرْكزة والاحتكار وتسريح العمّال وفرض أسعار مرتفعة للتّعويض عن الخسائر الحاصلة.
الطّبقات والفئات المتضرّرة من هذه الأزمة تبحث بدورها عن بديلٍ وعينها بالتأكيد على الاشتراكيّة كمخرجٍ ممكنٍ منها، والاشتراكية لم تعدْ في نظرها ذاك الشبح المروّع الذي يعني مثلما سوَّق لذلك الإعلام والفكر البورجوازيَّيْن “ديمقراطية الفقر والرأي الأوحد والبيروقراطيّة والقمع…” لكنها في المقابل، وهذا ما ينبغي معالجته، لا تجد أحزابا ماركسيّة قويّة وجاهزة ومتحمّلة لمسؤولياتها في الدّعاية والتّحريض ومنغرسة بما فيه الكفاية في الأوساط العمّالية والفلاحية والشعبية. وهذا ما يجعلها مُرتبِكة ومتردّدة وباحثة عن جهات أخرى يمكن أن تنقذها.
إنّ موازين القوى لازالت مختلّة لصالح القوى الامبريالية وأذيالها من السّماسرة المحلّيين الخادمين في رِكَابها هنا وهناك، وهذا ما يوفّر لها إمكانيّة الاستمرار والسّيطرة وتجاوز الأزمة رغم الصّعوبات الموضوعيّة.
القوى الثّورية أمام امتحانٍ جدّي
الأكيد أنّ خارطة القوى الماركسيّة حاليّا ليست نفس خارطة سنوات ما بعد تفكّك الاتحاد السوفياتي، فهي حاضرة اليوم في عديد القارّات والدول، غنيّها وفقيرها، وتملك من الوضوح السّياسي والفكري ما يجعلها قادرة على لعب دورها على أحسن وجه. وقد أكّدت تجربة الحراكات في أمريكا الجنوبية وإفريقيا وأوروبا وغيرها أنها حاضرة ومنخرطة وشعاراتها واضحة ومقبولة وبوصلتها ثابتة. لكن تأثيرها محدود نسبيّا مع مراعاة نسب التّفاوت هنا وهناك.
الأحزاب الماركسية مطالبة بقفزة نوعيّة بتجاوز مرحلة إعادة البناء والمُراكمة وتثبيت الخطّ الثوري الماركسي اللّينيني والتّباين مع مختلف التّحريفيّات ووحدة التنظيم إلى مرحلة جديدة من العمل الهجومي الكاسح الذي من شأنه ردّ الاعتبار لماركس وللماركسية وكسب ثقة أوسع الجماهير من عمّال وفلاحين صغار وفقراء ونساء وشباب مهمّش…الخ، وتعبئتهم من أجل تغيير موازين القوى لصالح أنصار الاشتراكية والثورة. لابدّ من درجة عالية من العمل والتّعبئة والتفاعل داخل الحراكات التي ما فتِئت تندلع هنا وهناك كردٍّ على أوضاع البؤس والتّهميش وتدهور الخدمات وغيرها.
الأحزاب الماركسية مطالبة بالتّماهي مع هذه الحراكات، ولمَ لا التفوّق عليها من أجل القدرة على التأثير في طلائعها الشّعبية وقيادتها نحو برّ الأمان. أمّا الاكتفاء بالحضور ورفع الشعارات الثوريّة فغير كاف لإحداث التغيير المرجوّ.
الماركسيون مطالبون بإعادة الثقة في الماركسية لدى أوسع الجماهير من خلال حضورهم القويّ في الحراكات من جهة ومن خلال عملهم الدعائي المكثّف حول مشروعهم البديل عن الرّأسمالية المتعفّنة، بما في ذلك تقييمهم لأسباب فشل التجارب الاشتراكية السّابقة من جهة أخرى, ومن خلال قدرتهم على تنظيم العناصر العمّالية والشّعبية التي تفرزها الحراكات أيضا.
وإضافة إلى كلّ ذلك، فهم مطالبون بتوحيد القوى الثورية والتقدّمية وتوسيع جبهة الأصدقاء والأنصار وتضييق جبهة الأعداء.
المرحلة مرحلة صراع بدائلٍ ومشاريع مجتمعيّةٍ، والعامل الذاتي محدّد بنسبة كبيرة في مآل الحراكات والثورات. فإمّا الذهاب بها نحو وجهتها الصّحيحة والمراكمة على طريق تغييرات عميقة ممكنة ما دام العامل الموضوعي المتمثّل في أزمة الرأسمالية عاملا مساعدا, وإمّا البقاء على هامش الصّراع وإعطاء فرصة للرأسمالية حتى تستعيد أنفاسها وعافيتها وتعود إلى السيطرة بأكثر الأساليب وحشيّة وعنجهيّة.