حسين الرحيلي
إنّ ضمان السيادة الوطنية على كامل التراب الوطني هي المهمة الأساسية التي تناط بعهدة أيّ سلطة سياسية فوّضها الشعب لحكمه وإدارة شأنه العام الداخلي والخارجي. ذلك أنّ قيمة الشعوب تقاس بمدة بسطها لسيادتها الوطنية ومدى قدرتها على تحقيق استقلالية قرارها في المسائل الاستراتيجية والمصيرية للوطن. لذلك فإنّ ردود الأفعال التلقائية من قبل كلّ الأطراف السياسية التقدمية والمدنية والمنظمات الوطنية من نشر وحدات قتالية أمريكية على التراب التونسي لمراقبة والحد من الحضور الروسي في ليبيا، يعكس مدى أهمية السيادة الوطنية ومركزية حرمة الوطن من التدخلات الأجنبية.
في المقابل خيّم صمت كبير حول الموضوع رغم جسامته من قبل الحكومة ورئاسة الجمهورية وأحزاب الائتلاف الحاكم التي ادّعت انها شكّلت “حكومة ثورية” بوجوه مستوردة من الخارج أو من بقايا نظام بن علي، والأغرب في كلّ هذا الصمت المطبق من قبل رئاسة الجمهورية المسؤولة مباشرة عن هذا الموضوع، والتي من عاداتها إصدار بيانات حتى على قضايا تُعدّ ثانوية إن لم نقل تافهة في بعض الاحيان.
فإعلان قيادة القوات الأمريكية في أفريقيا USA AFRICOM النيّة في نشر قوات أمريكية على الأراضي التونسية ليس مجرد نيّة أو اقتراح من قبل أمريكا لتونس، بل هو قرار تمّ اتّخاذه من قبل وزارة الدفاع الأمريكية وإعلام الطرف التونسي بذلك. ولم ينتظر ردّها لأنّ القرار الأمريكي غير قابل للنقاش باعتباره يندرج ضمن الصّراع الدولي وخاصة مع روسيا في إطار تحويل ليبيا إلى ساحة لمعركة نفوذ القوى العسكرية الكبرى في العالم، بعدما فشل المشروع الأمريكي – الصهيوني في سوريا والتي أوكلت فيه هذه المهمة القذرة إلى تركيا وقطر والسعودية وبيادقهم من الإسلام السياسي الإخواني. ووجب التذكير أنّ الوضع الليبي ليس إلاّ نتيجة حتمية لقرار مجلس الأمن الذي وضع ليبيا تحت البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة. فتمّ تدمير الدولة الليبية وتشريد شعب بكامله. ثمّ أوكلت مهمة مواصلة التخريب الممنهج لهذا البلد لمليشيات الإسلام السياسي وراعيها قطر وتركيا. وتقوم الخطة الأمريكية على تقسيم ليبيا والسيطرة على الطاقة والثروة الليبية عن طريق عصابات الإسلام السياسي التي جنّدتها الامبريالية الأمريكية منذ الحرب في أفغانستان وغزو العراق، لتكتمل الصورة في سوريا وتتعرّى كلّ الوجوه القذرة التي وظّفت لإنجاز هذه المهام التي تستحي القوى الاستعمارية السابقة والامبريالية الحالية عن تنفيذها.
كما وجب التذكير أنّ ما تعتزم الولايات الأمريكية القيام به خلال الفترة القادمة على الأراضي التونسية، ليس جديدا. إذ قامت أمريكا منذ سنة 2012 بنشر طائرات استطلاع من دون طيار، إضافة إلى تركيز أجهزة مراقبة على الحدود التونسية الليبية. كما نشرت ألمانيا تجهيزات عسكرية ومنصّات متطورة لمراقبة الحركة على حدودنا البرية مع ليبيا. وكانت كلّ هذه الأعمال والتجهيزات تحت يافطة التنسيق والتعاون ودعم قدرات جيشنا على مواجهة الإرهاب. هذا الإرهاب الذي يحكم تونس آنذاك ونقصد حكومات الترويكا المتتابعة إلى اليوم. كما تمّ استعمال الأراضي التونسية سنتي 2012 و 2013 كمعبر للسلاح من قبل دولتي تركيا وقطر لمليشيات الإسلام السياسي المدعومة من قبل حكومة الترويكا التونسية آنذاك.
وأمام تعقّد الوضع الليبي وتحوّله إلى ساحة مفتوحة لتصفية الحسابات السياسية والعسكرية الإقليمية والدولية، ومن خلال فشل التدخل القطري التركي في قلب ميزان القوى والسيطرة النهائية على الموضوع منذ 2012 إلى اليوم، فإنّ الولايات المتحدة الأمريكية، وانطلاقا من تطور التأثير الروسي على عدة مناطق في العالم وخاصة سوريا وليبيا وايران. إضافة إلى التحالف الاستراتيجي الروسي والصيني الذي بدا يقلب الميزان العسكري والاقتصادي لصالحهما خاصة إبان أزمة كورونا، كما أنّ عدم حياد روسيا في الصراع الليبي، والذي اصبح أكثر وضوحا بعد التدخل التركي المباشر في الحرب بين الفرقاء في ليبيا، كلّ هذا عجّل من رغبة أمريكا التدخل الفعلي والمباشر في الصراع الليبي خوفا من أن يحصل ما حصل في سوريا و ينقلب السحر على الساحر.
وانطلاقا من كون القرار الأمريكي لا يأتي من فراغ، ولا يمكن إسقاطه من دون أرضية مناسبة له. استغلّت أمريكا احتدام الصراع في ليبيا عسكريا، وسوّقت للتدخل الروسي المباشر في الصراع برّا وجوّا عبر وجود قاذفات روسية تساند حفتر، إضافة إلى مسرحية اتفاق حكومة السراج المنتهية الصّلاحية مع تركيا بغطاء أمريكي مكشوف. والذي يهدف إلى مساعدة المليشيات الإسلاموية المدعومة من قطر وتركيا وجماعة النهضة التونسية على قلب ميزان القوى لصالحها، عبر نقل المقاتلين السوريين المهزومين والمحاصرين بالجبهة السورية إلى ليبيا، بشكل يحافظ على جاهزية هذه العصابات لاستعمالها في مهام قتالية قذرة أخرى عند الحاجة.
كما استغلّت أمريكا الانحياز المفرط لجماعة النهضة لحكومة السراج وبالتالي خروج تونس رسميا من الحياد الديبلوماسي في القضية الليبية لتفرض على هذه الحكومة الهجينة الأمر الواقع وتدفعها عنوة لقبول انتشار قوات افريكوم الأمريكية على الأراضي التونسية. كما سيقع استعمال الورقة الاقتصادية بشكل كبير، خاصة وحكومة الفخفاخ بحاجة ماسة إلى الأموال لتغطية تأثيرات جائحة كورونا. ولا نتصور انّ جماعة النهضة أو الفخفاخ سيكونان وطنيان جدا أمام الضغط والمال الأمريكيين .
كما انّ ما لم تتمكن منه أمريكا منذ 60 عاما من نشر قوات قتالية وأجهزة تجسس على الحدود القريبة من الجزائر. قد مكّنتها منه عصابات النهضة من خلال انخراطها المحموم في سياسة المحاور وجرّ بلادنا وأشقائنا الجزائريين إلى مستنقع التحالفات القذرة والتذيل لقوى استعمارية وجرّ البلدين إلى أوضاع متقلّبة لا تخدم إلاّ عصابات الإرهاب والتهريب والجماعات الدينية التي تقاتل دوما بالوكالة لصالح أسيادها الأمريكان والصهاينة. إذ لا يمكننا ان ننسى أنّ زعيم جماعة النهضة يحاضر سنويا في مقر الايباك الصهيونية والتي تُعتبر أكبر تنظيم صهيوني يجمع الأموال لبناء المستوطنات في فلسطين المحتلة. كما أنّ هذه الجماعة قد ربّاها صديقها الأبدي ماكين الصهيوني المعروف والذي يعتبر الأكثر صهيونية من شارون.
إنّ إعلان قائد القوات الامريكية بأفريقيا عزم أمريكا نشر قوات قتالية على الأراضي التونسية لا يمكن أن يكون خبرا عاديا، بل يجب أن يتحوّل إلى معركة حقيقية وميدانية في الشارع لإرغام عصابة النهضة ومن ورائها حكومة الترويكا 4 ورئيس الجمهورية على رفض الطلب الأمريكي علنا، وعلى الالتزام بالحياد في الصراع الليبي من ناحية، والعمل على جعل الليبيين يحلّون مشاكلهم لوحدهم دون تدخل ولا وصاية من أحد من ناحية أخرى.
كما وجب العمل مع كل القوى الديمقراطية على تحويل الشارع إلى بركان يزلزل أقدام حكومة العمالة ويُخرج القصر من بهتته الدبلوماسية التي طالت أكثر من اللزوم لأن رئيس الدولة هو المسؤول دستوريا عمّا يمكن أن يحصل على حدودنا الشرقية.
إننا بهذا الموقف الأمريكي والصمت الرسمي التونسي، قد حوّلنا تونس إلى ساحة صراع وقدّمنا بلادنا للأمريكان على طبق من ذهب لتصفّي من خلالها حساباتها مع روسيا والصين. كما حوّلنا من خلال هذا الموقف غير المحايد مناطقنا الحدودية إلى مرامي للقذائف والقصف العشوائي الناجم عن الصراع في ليبيا خاصة وانّ الحرب الأهلية في ليبيا منحصرة في طرابلس والمناطق المحاذية لحدودنا.
كما نؤكّد أنّ ما يجري الآن وما سيتواصل حصوله في ليبيا لا يمكن أن يحلّ ببعض بيانات التنديد والدعوات الناعمة للتعقل والرصانة. لأنّ هذا السلوك البورجوازي في العمل السياسي أثبت عجزه. لذلك فإنّ المعركة الحقيقية هي في حشد الشارع وتعبئته بشكل متواصل لأنّ المعركة هي معركة سيادة وطنية وكرامة وطن وتحرير أرض يمكن أن تستباح من قبل الجنود الأمريكيتين الذين وإن دخلوا بلدا لا يخرجون منها بسهولة أبدا.