عمار عمروسية
يبدو أنّ غيمة الغموض الكثيفة التّي تطبع المشهد السياسي والاقتصادي والاجتماعي في بلادنا ماضية نحو مزيد التّعقيد والتدّاخل بما يفضي بصفة تكاد تكون آلية إلى مضاعفة المخاطر والتّحديّات على الوطن والشعب.
والمُلفت للانتباه أنّ جميع فتائل الأزمة وكلّ مخاطرها من ثمار الخيارات السياسيّة والاقتصادية والاجتماعية لمنظومة الحكم التّي أخذت على عاتقها تحت وطأة حرب المصالح النّفعيّة الضيّقة لأطرافها المتصارعة مهمّة تعفين الأوضاع وخلط الأوراق دون إقامة أدنى اعتبار لمصالح تونس وشعبها.
فأطراف الحكم، بحساباتها المتباينة وصراعاتها الرّجعيّة تتسابق للاستثمار في الأزمة الحادّة ومحاولات توظيف الحراك الاجتماعي والشعبي بما يعزّز موقع هذه الجهة أو تلك في غنيمة سباق وأْدِ المسار الثوري والإجهاز على مكتسباته القليلة المحقّقة.
وضمن هذا المناخ العامّ المأزوم أفاق الرأي العام الوطني على طلب قائد القوّات الأمريكيّة “أفريكوم” من وزير الدّفاع التّونسي تسهيلات نشْر لواءٍ عسكري بالتّراب التّونسي تحت دعاوي “مراقبة التّغلغل الرّوسي” في الحرب القذرة بالشقيقة “ليبيا”.
فهذا الطلب ليس غريبا ولا جديدا عن زعيمة الإرهاب العالمي، فقد سبق للإدارة الأمريكيّة في سنوات مضت أن قامت بمحاولات مشابهة انتهت جميعها إلى الفشل الذّريع نتيجة المقاومة النّشيطة للقوى الثورية والوطنية ببلادنا زيادة على صعوبات الأوضاع الإقليمية والجهوية السّائد آنذاك..
ورغم الانهيار المُريع للنظام العربي الرّسمي وسقوطه الذّليل تحت الهيمنة الأمريكيّة والغربيّة وغيرهما، وبالرّغم من تراجع القوى الثورية والوطنيّة محليّا، فإنّ تحقيق هذا الهدف ليس بالأمر الهيّن والسّهل لأنّ خطوط الدّفاع متينة وحصينة ضدّ التّواجد الأمريكي وغيره على أراضينا، فما عجزت عن تحقيقه أنظمة العمالة زمن الاستبداد وتكميم الأفواه من المؤكّد أن يكون بلوغه أشدّ عُسْرا تحت سلطة اليوم مهما كانت قابليّتها للخضوع والإذلال الوطني.
ولكن تبقى هناك مسائل مدعاة للاستغراب أكثر حتّى من مضمون طلب “الأفريكوم”:
1/مرّة أخرى يجد التّونسيون والتّونسيات أنفسهم مُجبرين على متابعة أخبار بلدهم، وتحديدا في مجال السياسية الخارجيّة، من مصادر إعلام وجهات أجنبيّة (زيارة أردوغان، إقالة ممثّل تونس في الأمم المتّحدة، نزول الطائرة التركية في مطار جربة…)
2/ الغموض المتّعمدّ والصّمت المُريب للرئاسة ومُجمل السلطات في تلك المحطْات التّي وجدت نفسها تحت ضغط الرأي العام الوطني وافتضاح المستور مجبرة على تقديم بعض التّوضيحات التّي لم تخرج عن سياق خزعبلات التّحاليل وذرّ الرماد في العيون.
3/ مساعي أطراف الحكم الأساسيّة وبعض القوى الفاعلة في البرلمان إلى ربط أهدافها بمحاور إقليميّة ودوليّة مُعادية ليس فقط للشعب التونسي وإنّما لكلّ الجماهير العربية وشعوب العالم التّواقة للتّحرر والانعتاق الاجتماعي.
4/ إنّ الدّيبلوماسيّة الخارجيّة لبلادنا في مجمل القضايا الحارقة عربيّا ودوليا شديدة الارتباك والتّذبذب، فهي عرجاء وتتقاذفها نزعات الاصطفاف وراء محاور العدوان واللّصوصية بما يتناقض مع أهداف الثّورة والمشاعر القومية المتأصّلة في شعب تونس الذي بحّت حناجره في محطّات كثيرة بشعارات معادية لأيّ وجود عسكري أجنبىّ على أراضينا.
إنّ رئيس الجمهورية مطالب قبل غيره، بل مجبر وفق الدّستور التّونسيّ، على كشف خياراته الدّيبلوماسيّة بما يضمن سيادة الوطن ومصالحه ويعززّ روابطنا القوميّة مع شعوب منطقتنا والعالم. فكلّ صمت في هذا المجال وكلّ محاولات التّعميّة عن حرب المحاور المُسْتعِرة اليوم بالبلد والإقليم من شأنه أن يعود بنتائج وخيمة على أوضاعنا، فانتشار قوّات أمريكية أو غيرها على أراضينا هو تعدٍّ صارخ على السّيادة الوطنية واستِعْداء صريح لأشقّائنا في “ليبيا” و”الجزائر”.
إنّ الشعب التّونسي لم يقبلْ قبل الثّورة بأن تتحولّ أراضيه إلى منصّة متّقدّمة لغدر القضايا العربية العادلة ونهب ثروات شعوبها، ولن يقبل بها حاضرا ولا مستقبلا.