مديحة جمال
“إن ولادة إنسان في العالم أمر صعب للغاية، والأصعب من ذلك أيضا تعليمه أن يكون شريفاً…”
(مكسيم غوركي – الأم)
من منّا لا يعرف راضية النّصراوي المحامية الشّرسة ورئيسة المنظمة التونسية لمناهضة التّعذيب التي أربكت نظام بن علي الجائر وفضحت كلّ جرائمه وجلّاديه إمّا من خلال مرافعاتها في أروقة المحاكم أو من خلال إضرابات الجوع التي خاضتها بكلّ بسالة وثبات على المبادئ بجسدها النّحيل.
أوّل مرّة سمعت فيها اسم راضية النّصرواي كانت في كلّية الحقوق بصفاقس ذُكِرت على مسمعي في المشرب الجامعي من قبل أحد نشطاء الاتّحاد العام لطلبة تونس بينما كنّا نخوض نقاشا حول “لماذا ندرس القانون في وطن يحكمه طاغية وتُداس فيه كلّ القوانين؟”، وقد كانت الإجابة: “لنكون أبناء راضية النّصرواي”. ثمّ التففنا جميعا حول طاولة المشرب الجامعي متلاصقي الأكتاف في انتظار الكشف أكثر عن هويّة صاحبة هذا الإسم الذي نُطِق بكلّ فخر.
يومها لم يذكر أحد أنّها زوجة النّاطق الرّسمي باسم حزب العمّال الشّيوعي التّونسي حمّه الهمّامي، الذي سأعرف لاحقا أنّه أحد الرّموز الكبار في مقارعة الاستبداد منذ بداية سبعينات القرن الماضي، في ذلك اليوم أصبحت راضية النّصراوي ملهمتي وحلمي الكبير وربّما سأجرؤ وأقول أصبحت أمّي. أوَليست الأمّ هي المُلهِمة التي ترسم أحلامنا وتعتني بها حتّى تصبح حقيقة؟
الغريب في الأمر أنّه طيلة سنواتي الجامعيّة التي تلت من 2008 الى 2011 لم أتخيّل يوما ملامح راضية ولم أجرؤ على البحث عن صورة لها فلقد كانت عندي فكرة عظيمة لا تقبل التّجسيد وكم كنت فخورة بتلك الفكرة.
راضية التي نذرت حياتها للدفاع عن سجناء الرّاي من كل أطياف الحركة الطّلاّبية إلى مختلف النّاشطين الحقوقيّين والسياسيين الذين حين يتراجع الكلّ عن الدّفاع عنهم تلْبس زيّ المحاماة وتقف في المحاكم من شمالها إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها، هيئة دفاعهم وتحارب حتّى تحصل على إذن بزيارتهم ولتعاين أوضاعهم في السّجن وتكشف للعالم ما يتعرّضون له من تعذيب وانتهاك ومعاملات لاإنسانية.
أوَليست بهذا العطاء الذي لا ينتظر مقابلا أمًّا لهم جميعا؟
راضية النّصراوي الثّوريّة حتّى في عشقها اختارت حمّة الهمّامي حبيبا وشريكا لها في النّضال من أجل حياة تليق بأن تُعاش لا مجرّد المرور فيها، فكانت سنده في كلّ ما مرّ به من سرّيّة وسجن وعلنيّة وحتّى مِحن التهديد بالتّصفية والاغتيال بعد الثورة. أوَليست العاشقات بكلّ هذا المدّ العِشْقِيِّ اللّامنتهي في عشقهنّ طابع أمومِيّ من نكران الذات في سبيل المعشوق؟
راضية النّصراوي الأمّ التّي تحمّلت أعباء المنزل وشؤونه في ظلّ غياب زوجها إمّا بسبب السّجن أو بسبب ملاحقة البوليس. راضية التّي لم تدّخر جهدا حتّى تربّي بناتها بشكل متوازن وتجعل من البيت المحاصر بأعين البوليس والمُخبرين والمعرّض دائما إلى الاقتحام والتّرهيب والتفتيش، عالما كبيرا من الحبّ والنّضال.
راضية النّصراوي التي كانت لِتمكّن ابنتها من لقاء أبيها زمن السّرّية تقهر مخبري البوليس وتمرّ بها بالمطار حتّى تصنع لصغيرتها فكرة آمنة جميلة وهي استقلال الطّائرة لزيارة والدها “المقيم في الخارج” حتى تحميه وتحميها من استجواب البوليس عن مكانه (حسب إحدى شهاداتها).. راضية النّصراوي التي حوّلت أحشاءها إلى فعل مقاومة حين حملت بابنتها “سارة” من حمّه وهو في السّرّيّة، هازمة بذلك نظام الوشاية والمخبرين ودولة البوليس التي لم تعرف الطّريق إلى المناضل الملاحق حمّه الهمّامي رغم كلّ الإمكانيات التي سخّرتها في ملاحقتها ومراقبتها ومن أجل الإمساك به، رافعة في كلّ ذلك سقف الأمومة عاليا.
راضية النّصرواي التي تقارع اليوم المرض بنفس القوّة التي قارعت بها الدّيكتاتوريّة وبابتسامتها المعهودة جمّعت كلّ التّونسيين حولها الذين هبّوا من مختلف التّيّارات والمشارب السّياسيّة لزيارتها والاطمئنان على سلامتها راجين لها الشّفاء العاجل. راضية التي تجني اليوم ما حصدت في مسيرتها النضالية والإنسانيّة المشرقة: حبّا بحبٍّ وعطفا بعطفٍ…
أوَليست لكلّ هذا، ومن أجل كلّ هذا، هي أمٌّ للوطن وللتّونسيّين جميعا؟